و(الجبار) فهو: المالك القاهر، الذي ما جَبَر من الأشياء كلها انْجَبَرَ، فكان على ما جبره عليه وصوره من الأجسام، فتبارك الله ذو الجلال والإنعام، الذي جبل الأشياء، وجبرها على ما شاء؛ من تصوير خلقها، وتركيب أجسامها وأبعاضها، وتقدير ألوانها وأماكنها، وتغيير طعم مأكولها واختلافها. فجبر السموات على ما أراد من الإرتفاع، وجبل وجبر الأرضين على ما أراد من الإندحاء والإتِّضاع. وجبر ما بينهما على ما شاء من التصوير والخلق،والتقدير والتركيب، وجبل وجبر العباد على ما شاء من تصويرهم، وخلق ما خلق من تقديرهم، فجعلهم من ضعف، ثُمَّ جعل من بعد الضعف قوة، ثُمَّ جعل من بعد القوة ضعفاً وشيبة، (يخلق ما يشاء)(1) كما قال اللّه سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ}[الروم: 54]. وكذلك جبلهم على ماشاء من خلق أجسامهم، فجعل منهم الطويل والقصير، وجعل منهم النبيل(2) في جسمه والحقير، وكلهم مريد للأفضل من الأمور، فكانوا كما شاء أن يجعلهم، وجعل فعله فيهم وفي غيرهم آية لهم، كما قال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْعَالمِينَ}[الروم: 22]، فكان تركيب خلقهم كما أراد من تصويرهم، لا اختلاف في ذلك ولا تفاوت، كما قال سبحانه: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَينِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3ـ4]، فالحمدلله الذي جبل العباد وجبرهم على ما شاء من تركيب خلقهم، محبوبهم من ذلك وغير محبوبهم، ولم يجبرهم على شيء من أفعالهم، صغيرها
__________
(1) سقط من (ج).
(2) كذا في النسخ.(1/206)


ولا كبيرها، دقيقها ولا جليلها، بل أمرهم ونهاهم، وبصرهم غيهم وهُداهم، ثُمَّ بعث إليهم النبيئين، فأمروهم بطاعة رب العالمين، وحذروهم أن يكونوا له من العاصين، وخلق للمطيعين ثواباً، وللعاصين نكالاً وعقاباً، ثُمَّ لم يَحُلْ بين أحد وبين طاعته، ولم يجبر أحداً على معصيته، بل أمر عباده تخييراً، ونهاهم سبحانه تحذيراً، ثُمَّ قال ذو المن والعزة والجلال؛ من بعد إكمال الحجة عليهم في كل حال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29]، وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7ـ8]، فتبارك المتقدس عن خلق أفعالهم، المتعالي عن جبرهم على شيء من أعمالهم، العدل في كل أفعالِهِ، الصادق في كل مَقَاِله، البري من شبه المجعولات، المتعالي عن دَرْكِ الغفلة والسِّنات.
و(المتكبر) فهو: العظيم الجبِّير، الذي لا يشبهه في القدرة والعظمة كبير.
تم الجزء الأول من جزئين من كتاب المسترشد بمن الله وعونه، يتلوه في الجزء الثاني
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين وصلى اللّه على محمد النبي وآله وسلم تسليماً.
باب معنى قوله: الكبير، ومخرج ذلك في اللطيف الخبير(1)
معنى (الكبير) فهو: البائن عن مشابهة المخلوقات، القديم الأزلي الذي لا تنقصه الساعات، الأول الذي لا تراه العيون ولا تعروه السنات، ولا تستتر عنه غوامض أسرار القلوب المحجوبات، ولا تحيط به الأقطار ولا تشتبه عليه اللغات، الذي هو من تخوم الأرضين كهو من أعالي السموات.
__________
(1) هذا الباب ساقط من (أ).(1/207)


وكذلك القول في معنى قوله: (الجليل)، فتبارك من لا إله غيره، ولا شيء يشبهه، المصوِّر لكل صورة من خلقه، المقدِّر الذي لا يكون فعلٌ كفعله(1).
الجزء الثاني من كتاب المسترشد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً.
باب تفسير قول الله سبحانه{ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}
ومعنى(2) مَخْرَج النفس (في الله)(3) في اللغة والبيان، وما يدور بين العرب في قَيِّم اللسان.
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
إن سأل عن النفس سائل فقال: ما معناها عندكم في الله تبارك وتعالى ربِّكم، وعلامَ يخرج فيها تفسيركم؟ فقد نجد الله تعالى يقول لنبيئه موسى صلى الله عليه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}[طه: 41]، ويقول: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}[آل عمران: 28،30].
__________
(1) إلى هنا النقص في (ب).
(2) في (ب): وما معنى.
(3) زيادة من (ج).(1/208)


قلنا له: أيها القائل، المتحير في أمره السائل، إن الله سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنُه لم يُرِد النفسَ التي تَتَوَهَّم، وإياها تَقْصد حين تتكلم؛ مِنَ الأنفس المُتَنَفِّسة بالرُّوح، المحتاجة إلى الرَّاحة والرَّوْح(1)، المُسْتَكِنَّة(2) في الأجواف، الجائلة في كل الأعطاف(3)، وكيف يكون ذلك وكل ذي روح أو نَفْسٍ(4)؛ فمِن خَلْقِه كائناً بغير ما شك ولا لبس؟ ألا تسمع كيف يقول عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَّبِّي وَمَا أُوْتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}[الإسراء: 85]، يريد سبحانه: مِنْ خَلْقِ خَالِقِي، وإِحْدَاثِ فَاعِلِي ومُحْدِثِي. ولو كان على ما يتوهم المشبهون، ويقول فيه المبطلون؛ مِنْ أنَّها نَفْسٌ مُسْتَجِنَّة في شيء، إذاً لقيل: إنهما اثنان، إذ النفس والشيء شيئان، ولو كانت نفساً مسْتَجِنَّة في شيء؛ لكانت النفس خلافاً لذلك الشيء، وللزم ذلك الشَّيْءَ الْعددُ والتَّحْدِيدُ، والتحرك والتحرف والانحدار والتصعيد، فتبارك من ليس كذلك، ولا على شيء من ذلك، بل هو الواحد الأحد، المتقدس الصمد، الذي ليس له شِبْهٌ(5) ولا مثيل، ولا ضدٌ ولا عَدِيل.
فأما قوله سبحانه: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}[طه: 41]، فإنما أراد بذلك: اصطنعتك لي، وقربتك نجيّاً منِّي. وكذلك قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}[آل عمران: 28،30]، يريد: يحذركم عِقَابَهُ لتخافوه، وفي كل أموركم تَتَّقُوه، وفي سرائركم تراقبوه.
والقرآن فإنما نزل على العرب بلغتهم، وخاطبهم الله فيه بكلامهم.
__________
(1) الرَّوح بالفتح: نسيم الرّيح.
(2) يعني المستترة.
(3) الأعطاف: الجوانب.
(4) في (ب): وكل نفس أو روح. وفي (ج): وكل روح أو نفس.
(5) في (ب): شبيه.(1/209)


والنفس تُدْخِلها العرب في كلامها، صِلَةً لجميع ما تأتي به من مقالها، وقد تزيد غير ذلك في مخاطبتها، وما تسطره من أخبارها، مثل (ما)، و(لا)،وغير ذلك مما ليس له عندها معنى، غير أنها تحَسِّن به كلامها، وتَصِلُ به قْيلَها وقالها.
من ذلك قول الرجل لصاحبه: أَتْيتُك بنفسي، وأَتيتنِي بنفسك، وإنما يريد: أتيتني أنت دون غيرك. وتقول العرب: ما منعك أن لا تأتيني؟ تريد: ما منعك أن تأتيني؟ فأدخلت (لا) صِلَةً لكلامها، وأثبَتَتْهَا كذلك في كتابها. وفي ذلك ما يقول الرحمن الرحيم، فيما نزل على نبيه من الفرقان العظيم؛ من قول موسى عليه السلام: {يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيتَ أَمْرِي} [طه: 92ـ93]، وإنما أراد صلى الله عليه: أن تتبعني، فأدخل (لا) صلة في الكلام.
ومثل هذا كثير فيما نَزَّل ذو الجلال والإكرام. من ذلك قوله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَولِكَ}[آل عمران: 159]، وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ}[المائدة: 13]، يريد سبحانه، وعَظُمَ عن كل شأن شأنهُ: فبرحمة من الله لنت لهم، وأراد فبنقضهم ميثاقَهُم، فأتى فيهما بـ(ما)؛ صلةً لغير سبب ولا معنى. وكذلك وفي مثل ذلك ما يقول الشاعر:
بِيَومِ جَدُودٍ لا(1) فَضَحْتُم أَبَاَكُم…وسَالمْتُمُ والخيلُ تدْمي شَكِيْمُها(2)
__________
(1) في (ب) و(ج): وفضحتم.
(2) البيت من أبيات لقيس بن عاصم المنقري، لفظه في أمالي المرتضى 1/114:
ويومَ جَدُودٍ قد فضحْتُم ذمارَكُم… وسَالَمتمُ والخيل تدمْي نُحُورها.
وهو قيس بن عاصم بن سنان المنقري السعدي التميمي أبو علي، أحد أمراء العرب وعقلائهم والموصوفين بالحلم والشجاعة فيهم، كان شاعراً حكيماً، اشتهر وساد في الجاهلية، وهو ممن حرم على نفسه الخمر فيها، وفد مع تميم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (سنة 9هـ) وأسلم، واستعمله على صدقات قومه، روى أحاديث، نزل البصرة آخر أيامه، وتوفي بها نحو سنة (20هـ). الأعلام 5/206.
وجَدُود: موضع فيه ماء يسمى بالكلاب، وكانت فيه وقعة مرتين، وخبره في العقد والكامل.(1/210)

42 / 209
ع
En
A+
A-