وإرادته في أفعال عباده؛ إنما هي إرادة نهي وأمر، لا إرادة حتم وجبر، أراد منهم الطَّاعَة غير مُكْرِهٍ لهم عليها، كما أراد أن لا تكون منهم المعصية غير حائل بينهم وبينها، بل بالطوع منهم أراد كَوْنَها، لا بالإكراه لهم والقسر عليها والإجبار، فأمرهم ونهاهم، وبَصَّرهُم وهَدَاهم، ومكنهم من العَمَلَيْن(1)، وهداهم في ذلك النجدين، ثم قال سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[القصص: 84]، ثم قال جل جلاله عن أن يحويَهُ قولٌ أو يناله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}[الكهف: 39].
فكانت إرادته في أفعالهم؛ هي الأَمْرُ لهم بالمَرْضِيِّ من أعمالهم، فنفذت إرادته في الأمر لهم كما أراد، ولو أراد أن يجبرهم على طاعته لجبرهم، ولو جبرهم على صنعهم وفعالهم؛ لكان العامل لما يعملونه ـ دونهم ـ من أعمالهم، ولو كان العامل لما عملوه(2)، لكان الآمَر لنفسه دونهم بما فعلوه، ولكان المشرك بنفسه لا هم، ولكان العابد لأصنامهم دونهم، لو كان على ما يقولون؛ إذ هو الصانع لكل ما صنعوا، الممضي دونهم لكل ما أمضوا، ولكانوا هم من كل مذمومٍ أبريآء، وفي حكم الحق مطيعين أتقياء، وعند اللّه للثواب مستأهلين سُعداء؛ إذ هم فيما صَّرفهم ربُّهم متصرفون، وفي قضائه ومشيئته ماضون. فتعالى اللّه الرحمن الرحيم، عما يقول فيه حزب الشيطان الرجيم.
[إرادة الله فيما أخبر به من المستقبل]
__________
(1) يعني عمل الخير وعمل الشر.
(2) في (ب): لما يعملونه دونهم من أعمالهم. وكذلك في (ج) بدون قوله: من أعمالهم.(1/201)
فإن قال قائل: قَدْ فهمنا ما احتججتم به في الفرق بين إرادة اللّه في فعله، وإرادته فيما سوى ذلك من فعل غيره، فَمَا عندكم فيما قصَّه اللّه وذكره، وأخبر به من أخبار الآخرة وقيام الساعة؟ فهل أراد تبارك وتعالى أن تقوم القيامة، ويكون الثوابُ، ويقع بأهله العقاب؛ فقد نجده قد أخبرنا بذلك كله، فهل أراده كما أراد الإخبار به؟
فقولنا إن شاء اللّه لمن سأل عن ذلك: إن اللّه تبارك وتعالى أراد أن يخبر بما أخبر به ويذكر ما ذكر فكان ما أراد، وكانت إرادته في ذلك هي المراد؛ من الإخْبَار نفسِهِ، فأَمَّا أن يكون أراد أن تقوم القيامة ويقع الجزاء، عند ما أخبر به من خبرهما فلا، لم يرد ذلك، ولو كان مراده فيه كذلك لكان أول الخلق قد وَاقَعَ وعاين القيامة والجزاء، وكان قد انقطع النسل والنَّما، وحل بالأولين دون الآخرين ما يُتَّقى، ولكنه سبحانه أخبر عما سيكون من فعله، وهو سبحانه بغير شك يريد أن يقيمها في وقْت ما يشاء، والوقت فهو في علمه معلوم مسمى، فإذا أراد إقامتها قامت، وإذا شاء أن يُجَلِّيهَا تجَلَّت، ولم يشأ سبحانه أن يُجلِّيَها إلاَّ في وقتها الذي إليه أَجَّلها، كما قال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لَوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187] فهو سبحانه يريد أن يقيمها لوقتها، ولم يُرِدْ أن يقيمها في دون ما جعل من مُدَّتها، وبين (يريد) و(أراد) في اللغة واللسان؛ فرق عند جميع أهل العربية والبيان؛ لأن معنى: يريد فهو سيفعل، لا أَنه قد فعل، ومعنى: أراد فهو أمضى وفعل، لا أنه سيفعل، وبين الفعل المستقبل والفعل الماضي؛ فرق في جميع المعاني، من(1/202)
القول والإعراب، وغير ذلك من غوامض الأسباب، يعرفه ويعلمه، ويقف عليه ذووا الألباب، وليس مَنْ قِيْل إنَّه يريد أن يفعل كذا وكذا؛ في الحكم كمن قيل إنَّه قد فعل ما به أقدم وعليه اجْتَرا. وَالْحُكْمُ من اللّه ورسوله، ومن الأئمة الهادين بالقطع والصَّلب، والقَتْل والضرب، والحبس والتنكيل، فَلاَ يقع على من يريد عمل ما جُعِل فيه ذلك ولم يفعله، وإنما يقع ذلك ويَجِبُ على من دخل فيه واكتَسَبه وفَعَلَه. وفي أقل من ذلك نور وبرهان، وفرق بين (أراد) و(يريد) وفصل وتبيان؛ عند كل ذي علم وحِجَى(1)، وبصيرة ويقين واهْتِداء.
(والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى اللّه على سيدنا محمد النبي المصطفى، وعلى من طاب من عترته وزكا) (2).
باب تفسير معنى قوله: الأعلى(3)
الأعلى فهو: العظيم المستعلي على الأشياء بقدرته، القاهر الذي لايرام لعزته وعظمته، الواحد البائن عن مشابهة شيء من خلقه، وكذلك معنى: (( تعالى علواً كبيراً )). لا ما يتوهم الجاهلون أنَّه مستعلٍ فوق شيء عال، يحيط به ذلك الشيء ويحويه ويحدق به، تعالى عن ذلك وحاشاه. وكيف يكون كذلك، أو يجوز فيه القول بذلك؛ وهو بكل مكان؟! كما قال سبحانه في واضح الفرقان: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، ولو كان كما يقول الضآلون، ويصفه به المشبهون؛ لبطل ما قال في القرآن؛ من أنَّه جل وعز بكل مكان.
باب تفسير قول الموحدين: إن الله بكل مكان
__________
(1) الحجى: العقل.
(2) سقط من (أ) أوله: باب تفسير معنى قوله الأعلى.
(3) من هنا إلى آخر الجزء الأول سقط من (ب).(1/203)
إن سأل سائل مسترشد أو متعنت فقال: ما معنى قولكم: إن الله بكل مكان، تبارك وتعالى ذو المن والإحسان؟
قلنا له: معنى قولنا ذلك في ربنا: أنَّه الشاهد لنا غير الغائب عنا، (لا يغيب عن الأشياء، و)(1)لا يغيب عنه شيء قَرُبَ أو نأى، وهو الله الواحد الجليل الأعلى، لأن من غاب عن الأشياء كان في عزلة منها، والعزلة فموجدة(2) للحد والتحديد، ومن غابت عنه المعلومات كان من أمرها في أجهل الجهالات، وكانت عنه عَازِبةً غائبةً، والله سبحانه فلا تخفى عليه خافية، سراً كانت أو علانية.
فعلى ذلك يخرج قولنا(3) إن الله بكل مكان، نريد أنَّه العالم الشاهد لكل شأن.
باب الرد على من زعم أن الله عز وجل ممازج للأشياء وحال فيها
إن سأل سائل فقال: أين الله؟
قيل له: مسألتك تحتمل وجهين، وتتصرف في اللغة على معنيين:
أحدهما: أن تكون تريد:أين الله حالّ؟ وهذا فَباطِلٌ فاسد من المقال، متعال عنه ذو القوة(4) والعزة والجلال؛ لأن ذلك يوجب التحديد، ومتى وقع التحديد وقع التبعيض، ومتى وقع التبعيض وقع التشبيه،وإذا وقع التشبيه زالت الربوبية بلا شك عن ذلك الشي المبعَّض المحدَّد المُجَزَّأ، لأن الخالق على خلاف المخلوقين، ومن وصف(5) بصفة المربوبين؛ فقد أزيل(6) عنه أن يكون جاعلاً وصحح(7) أنَّه من المخلوقين، وبطلت وبَعُدت منه الوحدانية، وأزيلت(8) من صفاته ـ بغير ما لَبْسٍ ـ الأزلية، والله جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله فهو الواحد الأزلي، والخالق المُحْدِث الباري، الذي ليس له ضد ولا شبيه، ولا مثل(9) ولا عديل، وهو الله الواحد الفرد الصمد الجليل.
__________
(1) سقط من (أ).
(2) كذا في النسخ. وفي هامش (ج): فموجبة.
(3) في (ج): معنى قولنا.
(4) في (ج): ذو القدرة.
(5) في (ج): وصفه.
(6) في (ج): أزال.
(7) في (ج): وصحح وأثبت.
(8) في (ج): وزالت.
(9) في (ج): مثيل.(1/204)
وإن كنت تريد بقولك: أين الرحمن؟ تقول أين هو مدبر فاعل لكل شأن؟ فهو ـ كما ذكر عن نفسه ـ بكل مكان مدبر فاعل، يفعل في كل يوم ما يريد، يميت ويحيى، ويخلق ويرزق، وهو الواحد الحميد، العالم فلا يخفى عليه مختف(1)، بل علمه به كعلمه بالظاهر المتجلي، فهو سبحانه كذلك.
وهذا جوابنا وقولنا لمن سأل عن ذلك؛ لا ما يذهب(2) إليه المشبهون لربهم، المتكمهون(3) في بحور ضلالهم، والعابدون لغير إلههم، إذ هم يعبدون الذي يذكرون،ويصفون ويَنْعتَون، ويحددون ويُبَعِّضون،والله الخالق الباري فخلاف ما يصفون، فلذلك قلنا: إنهم غيرَهُ يعبدون، فالجاهلون يعبدون صورة وجسماً، والله فهو المُجَسِّم المصوِّر لكل جسم ومصوَّر، والمصوِّر فخلاف المصوَّر، لأن المصوِّر فاعل، والمصوَّر مفعول به، والفاعل فليس بالمفعول، لأن الفاعل قبل مفعوله. فقد بان أن المشبهين يعبدون غير رب العالمين، فقد كفروا بالخالق، وعبدوا المخلوق، فبعداً لأصحاب السعير، والحمدلله الواحد القدير.
باب تفسير معنى:
القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر
(القدوس) فهو: المستحق من خلقه للتقديس، والتقديس فهو: التنزيه والتعظيم، فكذلك ربنا الواحد الكريم.
و (السلام) فهو: السالم من الآفات التي تحل بغيره، النازلات بالخلائق، الحآلَّة بهم، الهاجمة عليهم.
و(المؤمن) فهو: المؤمِّن لأوليائه من أليم عذابه، الصارف عنهم ما يوقع بأعدائه من عقابه.
و(المهيمن) فهو: المتقدس الحاكم، (الفاصل حكمه العالم)(4) الشاهد على خلقه بحكمه العادل.
و(العزيز) فهو: الغالب الجليل، الممتنع المتعالي عن التشبيه والتمثيل، المتعزز فلا يرام، العظيم الجليل فلا يضام، المعز لأوليائه، المذل لأعدائه.
__________
(1) في (ج): عليه خفي من ذلك.
(2) في (ج): ذهب.
(3) في (ج): المنهمكون.
(4) ليس في (ج).(1/205)