فإن قالوا: ليست الإرادة من اللّه لخلقهما بإرادته لإبادتهما وتبديلهما؛ لأن إرادته نافذة، وقدرته ماضية، وقد أراد أن يخلقهما فخلقهما، وإذا أراد أن يُبدِّلهما بَدَّلهما؛ فَقَدْ أقروا أن له إرادة تحدث في كل الحالات، ومتى كانت كذلك لم تكن أبداً أزلية، وزال عنها اسم القدم والأوَّلية، وإذا ثبت أنها حادثة ثبت أنها مُحْدثة، وإذا ثبت أنها محدثة ثبت أنها مَجْعُولة مقدَّرة، وإذا ثبت أنها مَجْعُولة مقدرة ثبت أن المجعول(1) هو المخلوق المدبَّر، وأن الإرادة ليست غير الموجود المفطور المصوَّر؛ وإذا قد ثبت ذلك فقد ذهب ما يقولون به من الفرق بين إرادة اللّه وفعله، وثبت أنَّ فعلَه إرادته، وأن إرادته سبحانه فعله، إذا أوجد شيئاً فقد أراده، وإذا أراده فقد أوجده. والحمد لله رب العالمين، وصلى اللّه على محمد خاتم النبيين، وعلى أهل بيته الطاهرين. ومن الحجة على من فَرَقَ بين إرادة اللّه وفعله، فَزَعمَ أن إرادته متقدمة لإيجاده وصنعه؛ قَولُ اللّه سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس: 82]، فمعنى قوله سبحانه لمراده: كن؛ فهو إيجاده له وخلقه إياه، لا أنَّه يكون منه إليه قول ولا له؛ لأنَّه لو كان كما يظن الجاهلون، أنَّه يامره بالكون فيكون؛ لَكَان القول من القائل؛ متوسطاً بين المفعول والفاعل، والقول فهو فعل، ولو توسط الفعل من الرحمن؛ لكان مشابهاً لفعل الإنسان، بأبين ما يكون من البيان.
فقد بطل بحمد لله أن يكون كذلك، لما ذكرنا واحتججنا به أوَّلاً في ذلك. ومن الحجة عليهم، ومما يُبْطِل ما هو في أيديهم؛ أنَّه لو كان منه أمر له كما يقولون، لم يَخْلُ من أن يكون أَمَرَه وهو عدم غير موجود. ومُخَاطَبةُ العدم الزائل المفقود؛ فَأَحْوَلُ المحال، ومخاطبة العدم من الآدميين فأَضَلُّ الضلال، فكيف يجوز أن ينسب ذلك إلى الواحد ذي الجلال؟!
__________
(1) في (ج): المقدر.(1/196)


أو يكون أَمَرَه وهو موجود، كائن قَائِمٌ غير مفقود؛ فأَمْرُ الكائنِ القائمِ الموجودِ بأَنْ يكُونَ محالٌ؛ لأنَّه قد استغنى بتجَسُّمِه وكَيْنُونَتِه عن التَّكوين في حال من الحال، كما لا يجوز أن يُؤْمَر القائمُ بالقيام، ولا النائمُ بالمنام، ولا الراكبُ في حال ركوبه بالركوب، ولا المُهرْوِل المُدْبِر بالخَبُوب(1)؛ لأَنَّه ـ إذا كان في الحال كذلك ـ مُسْتَغْنٍ عن أن يُؤْمَر بشيء من ذلك. فقد سقط أن يكون أمر من اللّه للشيء في حال من الحال، وإذا سقط (ذلك سقط) (2) ما يتعلقون به من زور المقال، وثبت(3) ما قلنا به من إيجاد اللّه سبحانه له ذي الجلال.
فإن قال قائل: إن معنى قول اللّه للشيء: {كُنْ فَيَكُونُ} هُوَ أن يقول للشيء: كن شيئاً آخر، مثل الصَّلصَال والْحَمَأ(4)، قال له: كن صورة وبشراً، فَكَانَ كما أمره ربه حقاً. ومثل النطفة قال لها: كوني علقة، فكانت علقة، ثم أمر العلقة فكانت مضغة، ثم قال للمضغة: كوني عظاماً فكانت عظاماً، فكساها لحماً، وجَسَّمها بقدرته جسماً، فهذه أشياء غير مفقودة؛ تؤمر فتنتقل أجساماً موجودة.
__________
(1) الخبوب والخًبَب: المشي السريع.
(2) ليس في (أ).
(3) في أ: ثبت. على أنه جواب: إذا.
(4) الصلصال من الطين هو: الذي له صوت كالفخار. والحمأ: الطين الأسود.(1/197)


قيل له: إن الفروع لا تقاس على الأصل(1)، وإنما ترد الفروع إلى ما هي منه من الأصول(2)، وهذه الأشياء التي ذكرت فإنما هي مخلوقات، تنتقل من خلق إلى خلق في الحالات، وكذلك قال فيها، وسمَّاها بالخلق ودعاها؛ رب الأرباب، فيما نزل من محكم الكتاب، ألا تسمع كيف يذكر أنَّه خَلَقها، ولم يذكر في شيء من ذلك أنَّه أَمَرَها؟ وذلك قوله عزَّ وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون: 12 ـ 14] ففي كل ذلك يذكر تبارك وتعالى أنه خالق مصور(3) لعبده مَنقِّلٌ في هذه الأشياء، ولم يذكر ـ فيما احتججت به في هذه الآية ـ له دون الخلق أمراً، والخلقُ من اللّه فَلا اختلاف بيننا وبينكم فيه، وإنما الاختلاف بيننا وبينكم في الأمر؛ الذي أزحتموه عن معنى الخلق ولم تقيسوه عليه، طمعاً أن تثبتوا قِدَمَ الإرادة على الفعل من اللّه الحميد، فتثبتوا بذلك عليه سبحانه التشبيه وتدفعوا التوحيد، فتشاركوا النصارى في قولها، وتمازجوا بأموركم أمرها، وَلَو أنكم أنصفتم عقولكم، وتركتم المكابرة عنكم، ثم رددتم متشابهَ الأمور إلى محكمها، وما شَذَّ من فَرْعِهَا إلى أصلها، ثم نظرتم إلى النطفة ممَّ هي؟ وممَّ كانت؟ حتى تنتهوا إلى مَا مِنْه ابْتَدَأَت وبَانَت، لَوجَدتُم أصل ذلك إن شاء اللّه من الطين، وأًصل الطين فَمن الماء بأَيْقَن اليقين، وكذلك
__________
(1) في (ج): لا تقاس عليها الأصول.
(2) الأصول: هي العناصر الأولى التي ابتدعت من العدم، والفروع هي التي تركب وتولف من مادة موجودة، فالهواء والماء والريح والنار أصول تفرعت وركبت منها سائر الأجسام.
(3) في (أ): مصرف.(1/198)


فَأَصْلُ خلق الشياطين فمن مارج(1) من نار، فإذا رجعتم إلى الأصول الثلاثة، المفطورة المبتدعة: من الرياح الجارية المسخرة، وما خلق اللّه سبحانه من الماء، ومافطر فوقه من عجيب الهواء، ثم خَلَق من هذه الثلاثة الأشياء؛ جمِيعَ ما ذَرَأ وبَرَأ(2)؛ لكان(3) حينئذ يصح لكم القياس، ولا يقع عليكم إن شاء اللّه الالتباس، ويبطل الأمر الذي تقولون به وتذهبون إليه؛ إذ لا بد أن تُقِرُّوا أن هذه الثلاثة الأشياء؛ خُلِقَت وابْتُدِعَت من غَيْرِ ما أصلٍ مبتدأ، وأن اللّه الأَوَّلُ المُوْجِدُ لأصل كل ما أَوْجَد(4) وبَرَأ. فيسقط ما قلتم به في معنى القول من الله للشيء من اَنَّه أَمْرٌ من الآمِرِ للمأمور، ويثبت القول للموحدين بأن القول من اللّه للشيء هو: الإيجاد له والتكوين والتقدير، والإخراجُ من العدم إلى الوجود والتَّصْويرُ، أو تثبتوا مع اللّه في الأزلية والقدم شيئاً وأشياء، فتعالى عن ذلك العلي الأعلى. ومن قال من المخلوقين بذلك، وقع بحمد اللّه في غيابات المهالك، وخرج من معرفة الرحمن، وأَكْذَب ما ذكر اللّه في القرآن؛ من قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}[الزمر: 62ـ 63]، ولو كان لم يخلق شيئاً واحداً؛ إذاً لما كان خالقاً لكل ما ذكر من الأشياء.
وفي أقل مما قلنا به وتكلمنا، فَرقٌ بين إرادة اللّه وإرادتنا.
[إرادة الله في أفعال غيره]
__________
(1) المارج: اللهب المتقطع في الهواء.
(2) الذَّرءُ والبَرْءُ بمعنى: الخلق.
(3) قوله: لكان، جواب: ولو.
(4) في (أ) و(ج): كل ما يوجد ويُرَى.(1/199)


فإن قال ذو مقال؛ من المُتَكَمِّهِيْن(1) الضُّلاَّل، المتعلقين بالشبهات والمَحَال: أليس قد أراد اللّه من الخلق أن يطيعوه، ويعبدوه فلا يعصوه؟ قيل له: كذلك اللّه تبارك وتعالى، وفي ذلك ما يقول اللّه العلي الأعلى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56]، وقال: {يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 21]، فَلمَّا أن أمرهم بطاعته؛ عَلِمْنَا أنَّه لم يخلقهم إلاَّ لعبادته، وذَلِكَ فَمُرَادُه منهم؛ إذ لَهُ أَوْجَدَهم.
فإن قال: فهل كَانَ ما أراد ذو الجلال والسلطان؟ فإنكم إن قلتم: إنَّه قد كان ما أراد الرحمن، من الطاعة والإحسان(2)؛ أَوْجَبْتُم أن يكون الخلق كلهم مطيعين، ونَفَيتُم أن يكون فيهم أحد من العاصين، وإن قلتم: إنَّه لم يكن ما أراد الواحد ذو الجلال؛ فقد أقررتم بتقديم إرادة اللّه على كل حال.
قلنا: إن إرادة اللّه في فعله؛ هي خلاف إرادته في فعل غيره، وكلامُنَا(3) فإنَّما هو في فعل الرحمن، لا فيمن خلق وذرأ من الإنسان، فإرادته فيما خلق هو إيجاده له، على ما تقدم في أول كلامنا من القول فيه.
__________
(1) في (ب): المتكلفين. وفي (ج): المتكلمين، وفي هامش (ج): المتكمهين. والكَامِهُ: الذي يتخبط فلا يدري أين يتوجه.
(2) سقط من (ج): من الطاعة والإحسان. وفي (ب): ما أراد الرحمن الرحيم أوجبتم.
(3) في (أ): وكلاهما. وهو سهو.(1/200)

40 / 209
ع
En
A+
A-