وهناك منهج آخر في التأصيل يقترب فيه الإمام من منهج المعتزلة وبالذات (( واصل بن عطاء )) و (( عمرو بن عبيد ))، وقد برز هذا المنهج بوضوح في رسالة: (( المنزلة بين المنزلتين )) والذي اختصه في هذا المجموع برسالة تحمل نفس العنوان (( المنزلة بين المنزلتين ))، وفيها يقترب الإمام من منهج المعتزلة في الأصول، كما تبلور عند (( القاضي عبد الجبار بن أحمد ))، وكأن القاضي تأثر في كتاب (( الأصول الخمسة )) ـ الذي شرحه السيد الإمام مانكديم وحققه ونشره الدكتور عبد الكريم عثمان ـ بكتاب (( المنزلة بين المنزلتين )) للإمام الهادي يحيى بن الحسين، والملاحظ أن الإمام في هذه الرسالة نحن بأصول الدين منحى غير منحى الأصول الأربعة أو الخمسة التي مرت آنفاً، كما أنها برزت في هذه الرسالة شخصية الإمام الكلامية الفذة المتميزة عن المدارس والنحل والآراء الكلامية لغيره، ومدى استيعابه وهضمه لأصول فرق المسلمين وأهل الصلاة، فقد جعل أصول العقيدة خمسة كما عرفت عند المعتزلة: (( التوحيد )) و (( العدل )) و (( إثبات الوعد والوعيد )) و (( المنزلة بين المنزلتين )) و (( المعتزلة )) و (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ))، كما جعل أصول فرق المصلين خمسة: (( الشيعة )) و (( المرجئة )) و (( الخوارج )) و (( المعتزلة )) و(( العامة ))، ولأن الجديد في هذه الرسالة القيمة هو موضوع (( المنزلة بين المنزلتين )) فقد جعل عنواناً لها، وهي تمثل قمة اللقاء بين الإمام وبين أصول المعتزلة الخمسة على سبيل الاتفاق لا على جهة التقليد.(1/16)
وقد أصل.... من كتاب الإمام لهذه الخمسة الأصول في هذه الرسالة من كتاب العزيز ومن شهادة تلك الفرق على سبيل الجملة حيث (( اعتبر أن جميع فرق الأمة بجملة قولنا مصدقون، ونحن لهم فيما انفردت به كل طائفة منهم مكذبون، وهم فيها ندين الله به من أصول التوحيد والعدل وإثبات الوعد والوعيد والقول بالمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصدقون، وجميع أهل الصلاة عندنا خمسة أصناف: الشيعة، والمرجئة، والخوارج، والمعتزلة، والعامة ))(1).
وقد عقد الإمام في هذه الرسالة باباً في حكم أهل الكبائر قرر فيه أنهم (( ليسوا بكفار ولا مشركين ولا منافقين، وأنهم ليسوا بأبرار ولا فضلاء ولا أخيار ولا أزكياء، ولا أطهار ولا عدولاً، ومن كان هكذا لم يطلق له اسم الإيمان ولا الإسلام، ولا اسم الهدى والتقوى والإحسان؛ لأنه قد غلب عليهم اسم الفسوق والفجور، والظلم والعدوان والضلال، وكانوا أهل منزلة بين منزلتين وهي منزلة الفساق والفجار التي بين منزلة المؤمنين والكافرين في هذه الدنيا ))(2).
فهذه خلاصة الأصول التي تضمنها هذا المجموع وتناولتها كتبه ورسائله، وهناك بعض التفصيلات والجزئيات في الكلام كمسائل الصفات التي استحقها الخالق جل وعلى لذاته أو لفعله كالإرادة وكالعرش والكرسي وما إليها مما يجده الباحث في هذا المجموع المبارك نرجئ تفصيلاتها للدراسة الموسعة إن شاء الله.
سياسة الإمام
من الأشياء الجديرة بالبحث والتي تعكس جانباً مهماً من شخصية الإمام الهادي يحيى بن الحسين رؤيته في موضوع الحكم وسياسته، ملامحها ومعالمها. ولها موضوع آخر هو دراسته، ونرى من المهم أن نشير إجمالاً إلى بعض ملامحها في هذه العجالة فنقول:
__________
(1) كتاب المنزلة بين المنزلتين.(1/17)
إن للإمام نظرته المتكاملة إلى الحكم، والتي تقترب بها من الخلافة الراشدة بما فيها من تحديد دور الإمام وشروطه ومواصفاته وطريقة تعيينه، بعيداً عن إعطاء الشرعية لحكم الواقع القائم على الإرث والغلبة كما تجلى في حكم الدولتين الأموية والعباسية والنظرة التي منحتهما الشرعية تحت مبرر السمع والطاعة وإن أخذ حقك وجلد ظهرك ما لم يكن هناك كفر بواح ونحوها من النظريات التبريرية التي تناسب الحكم القائم.
ومجمل نظريته في الإمامة أنها خلافة النبوة ولا بد أن يكون الخليفة كالمستخلف في ما عدا النبوة مما يعنى أنها:
ـ أولاً: بالتعيين والإختيار من الله جل وعلى على سبيل الجملة كما في النبوة، وليس ذلك إلى الأمة ولا بالقهر أو الوراثة (( وذلك أن تثبيت الإمامة عند أهل الحق في هؤلاء الأئمة (آل محمد الصالحين) من الله عز وجل على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن ثبت الله فيه الإمامة واختاره واصطفاه وبين فيه صفات الإمام فهو إمام عندهم مستوجب للإمامة ))(1).
وعلى ذلك (( فلا يلتفت إلى غير ما قلنا من أقاويل الهراجين وتعبث العباثين، وزخاريف كلام المتكلمين وافتراق أقاويل الجاهلين؛ ممن يقول: إن الإمامة بإجماع الرعية، وقول من يقول: بل هي لما يوجد من الآثار المروية في الملاحم المذكورة، وقول من يقول: هي بالوراثة لولد بعد والد، ولا يلتفون ـ ويلهم ـ لما تستحق به الإمامة من البينات والشواهد النيرات، همج رعاع وللجهال أتباع، لم يقتدوا بالحكمة؛ فيعلموا بما به تحق الإمامة لصاحبها على الأمة، قد جعلوا الحكم بها وفيها لغير من حكم الله وجعلوا الحكم بها إلى غير الله ))(2).
__________
(1) كتاب العدل والتوحيد.
(2) جواب مسألة النبوة والإمامة.(1/18)
ـ وثانياً: أن الإمامة ـ كالنبوة ـ في إبراهيم وذريته، وقد ورثهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذريته في النبوة والإمامة والملك والوصية، (( فكانت النبوة والإمامة والوصية والملك في ولد إبراهيم صلى الله عليه إلى أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فأفضت النبوة إليه، وختم الله الأنبياء به وجعله خاتم النبيين وسيد المرسلين.. ثم حول الله النبوة إلى محمد خاتم النبيين فقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ}، ثم قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ))، وقال الله سبحانه : {إِنَّمَا يُرِيْدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْراً}، فبين الأمر سبحانه فيهم وأوضحه لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وكان الله عزيزاً حكيماً، ومحمد من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وكذلك ذريته، ثم قال سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِيْنَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فورثة الكتاب محمد وعلي والحسن والحسين ومن أولدوه من الأخيار، ثم قال في ولدهم: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}، ففيهم إذ كانوا بشراً ما في الناس، وقال: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، كما قال في ولد إبراهيم وإسحاق صلى الله عليهما: {وَمِنْ ذُرِّيَتَهُمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِيْنٌ} ))(1).
__________
(1) كتاب العدل والتوحيد.(1/19)
ـ وثالثاً: أن الإمامة لا تجوز في الظالم، فلا ولاية له ولا عهد ولا أمر ولا نهي، بل إن للحاكم شروطاً ومواصفات عامة لا بد من توفرها فيه حتى يكون مستحقاً لها، وقد سبقت الإشارة إلى جملة شروطه ومواصفاته ونزيد هنا قوله: (( والله عز وجل قد جعل الأمر والنهي في خيار آل محمد عليه وعلى آله السلام، وزواه عن ظالميهم وظالمي غيرهم، ومكن أهل الحق منهم وأجازه لهم، وذلك قوله تبارك وتعالى: {الَّذِيْنَ إِنْ مَكَّنَاهُمْ فِيْ الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةِ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}، ثم قال: {وَعَدَ اللهُ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِيْ الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِيْنَهُمُ الَّذِيْ ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ..}.(1/20)