وإنما تتقدم الإرادة فعل المفعول؛ إذا كان الفعل مخالفاً للمفعول المجعول، وكان الفعل متوسطاً بين الفاعل ومفعوله، فحينئذ تتقدم إرادة المريد أفاعيله ومعموله، وذلك فلا يكون إلا في المخلوقين، ولن يوجد ذلك أبداً في رب العالمين؛ لأن كل مفعول للمربوبين فإنَّما قام وتجَسَّم، واستوى من بعد العدم وتُمِّم(1)؛ بالفعل المتقدم له من الحركات؛ له بالرفع والوضع في الحالات. من ذلك ما يُعْلَم ويُرَى، من عمل الصانع البنَّاء، وإحكامه لما يُحْكِم من البناء، فالفاعل البناء قبل الفعل، والفعل قبل المفعول؛ لأن فعل البَنَّاء هو الحركات والتَّحيُّل(2) بالرفع والتسوية والتقدير، والوضع لحجر فوق حجر، ومَدَرٍ بعد(3) مدر، حتى يتم له بفعله مفعوله، ويلتئم له ببعض حركاته معموله، ولو لا ما كان منه من فعله، لما تّمَّ له ما تم من مفعوله، فبفعل الفاعل كان المفعول، وبتحيُّله قام وتم له المجعول، فالفاعل من الآدميين جسم وأدوات، وفعلُه فَعَرضٌ بيِّنٌ بالحركات، ومفعوله فبعد عَرَضِ الفعل يوجد في الحالات، فكل جدارٍ وجد أو دارٍ، أو ثوب(4) مخيط بخيوط، أو رسم بكتاب مكتوب، أو غير ذلك من الأمور والأسباب، التي هي من أفعال العباد؛ فلم تكن إلاَّ من بعد الحركات، اللواتي هن أعراض غير متلاحقات(5)، ولذلك جاز فيها تقدم الإرادات والنيات.
__________
(1) في (ج): وتم.
(2) بالحاء المهملة: يعني المعالجة.
(3) في (ب): فوق.
(4) في (ج): أو عقدة معقودة أو ثوب.
(5) لأن العرض لا يبقى زمنين كما هو معروف عند المتكلمين.(1/191)
وكلما أوجده الرحمن؛ فهو فعل لذي الجلال والسلطان، ولا يقال: إنَّه له مفعول، إلاَّ على مجاز الكلام المعقول، لما بينا، وشرحنا في أول الكلام وقلنا؛ من أنَّ المفعول لا يكون إلاَّ وقد تقدم قبله الفعل من الفاعل، ولا يكون فعل بين مفعول وفاعل إلاَّ وهو حركات، بأدوات وتحَيُّل وتفكر وآلات(1). فتعالى عن ذلك ذو المن والجلال والسلطان، وتقدس عن الحركات والتحيل الواحد المنان، الذي كلُّ خلقه له فعل، الذي إذا أراد شيئاً أن يكون كان، بلا كلفة ولا عون أعوان، أمرُه نافذٌ كائن، ومرادُه لمراد غيره فَمُفارقٌ مباين. ومن الحجة على من زعم أن إرادة اللّه متقدمة لفعله؛ أن يقال له: ألست تزعم أن إرادته متقدمة لأفعاله؟ فإذا قال: كذلك أقول. قيل له: ألست تعلم في صحيح العقول أن ذلك إن كان كذلك فهما شيئان اثنان: الإرداةُ شيء، والفعل شيء؟ فلا يجدُ بُداً من أن يقول: أجل، فيقال له: فأي الاثنين تَقدَّم صاحبَه، فكان وحدث قبله؟ فإن قال: الإرادة حدثت قبل الفعل؛ فسواءٌ كان بينهما قليل أو كثير؛ فقد أوجب وأدخل بذلك على ربه النية والضمير، والانطواء على مالا يجوز في اللطيف الخبير، ومتى قال بذلك قائل؛ فقد شبَّه ربه بالمخلوق الزائل، ذي الجوانح(2) المضمرات، والإرادات(3) المتصرفات، والآراء المتناقلات، وهذا فإبطالُ التوحيد، ونَفْسُ الكذبِ على الواحد الحميد، ونَقْضُ ما في القرآن(4) المجيد.
__________
(1) يريد بهذا أنَّه في حقه تعالى ليس إلا فعل وهو الموجود، وفاعل وهو اللّه، وليس الفعل في حقه إلاَّ المفعول، ولا المفعول إلاَّ الفعل، ولا واسطة لأنها هي العرض، وهو من لوازم الجسم، والله ليس بجسم وأفعاله ليست أعراضاً كما عرفت، وحينئذ لا تحتاج إلى توسط الإرادة والنية.
(2) الجوانح: الضلوع تحت الترائب مما يلي الصدر.
(3) في (ب) و (ج): والأدوات.
(4) في (ج): ما نزل في الكتاب.(1/192)
وإن هو قال: بل الفعل سبق الإرادة ـ وقد علم وعلمنا أن الفعل هو المخلوق ـ فقد قال: إن الخالق للمخلوقين غير اللّه رب العالمين(1)؛ لأن اللّه سبحانه وجل عن كل شأن شأنه لا يخلق إلاَّ ما يشاء، ولا يشاء إلاَّ ما يريد من الأشياء، وكذلك قال الرحمن، فيما نزل من الفرقان: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج: 14]، وقال سبحانه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]، ففي كل ذلك يخبر أنَّه لن يفعل إلاَّ ما يشاء، ولن يشاء إلاَّ ما يريد من الأشياء، فكذلك اللّه تبارك وتعالى. أَوَلا ترى أن الفاعل لما لا يريد؛ فَجَاهلٌ مذموم من العبيد، فكيف يقال بذلك في الواحد الحميد؟! ومن الحجَّةِ على من قال إن الإرادة من اللّه سابقة للمراد، وإنها في اللّه ذي العزة والأياد كالعلم والقدرة(2)، وأنه لم يزل مريداً، كما لم يزل قادراً عالماً، أَنْ يُقال لهم: هل كان اللّه في الأبد والقدم خالقاً لما أراد أن يخلق؛ إذ لم يزل في قولك مريدا للخلق، كما أنَّه لم يزل عالماً بما يكون، قادراً على فعل ما يشاء، إذا أراد فعله وشاءه؟
__________
(1) وذلك لأن اللّه تعالى لا يفعل إلاَّ ما يريد، ولو سبق الفعل الإرادة لكان قد خلى عنها، وكان قد فعل حينئذ مالا يريد، وليست تلك صفته التي أخبر بها عن نفسه، فيكون الفعل إذاً لغيره كما ترى، أو له وقد وقع بغير إرادة، تعالى عن كل ذلك الفعال لما يريد.
(2) سقط من (أ) من هنا إلى قوله: لإيجاده وصنعه.(1/193)
فإن قال: نعم، فقد أثبت الخلق مع اللّه في القدم، فتعالى عن ذلك ذو الجلال والكرم؛ إذ قد جعل معناه ومعنى غيره من العلم والقدرة سواء، ومتى كانا سواء؛ فلم يفترقا في سبب ولا معنى، فكلُّ ما نزل بأحد هذه الثلاثة الأشياء ـ من العلم والقدرة والإرادة ـ فهو نازلٌ بصاحِبَيْه، وحالٌّ بمشاكِلَيه، ومحيط بمُناظرَيه.
ولا يخلو مَن جعل المشيئة والإرادة كالعلم والقدرة من أن يحمل العلم والقدرة على معنى الإرادة والمشيئة، أو أن يحمل معنى المشيئة والإرادة على معنى العلم والقدرة، فإن حمل العلم والقدرة على معنى المشيئة والإرادة والخلق؛ جعلهما مخلوقين محدثين بأحق الحق، وإن حمل معنى الخلق والإرادة على معنى العلم والقدرة؛ جعل الإرادة والخلق شيئاً قديماً أزلياً، وفي أزلية الإرادة أزلية الخلق، وفي ذلك إبطال التوحيد، والشرك بالله الواحد الحميد.
فقد بطل قول من قال بأحد هذين المعنيين، لما بان لأهلهما فيهما من الفساد في كلتى الحالتين، وثبت ما قلنا به؛ من أنَّه لا فرق بين إرادة اللّه تعالى ومراده، وأن الإرادة منه تعالى هي المراد، وأن مراده هو الموجود المُدبَّر، الكائن المخلوق المجعول، إذا أراده فقد كوَّنه، وإذا كوَّنه فقد أراده، لاتسبق له حالة حالة، في الفعل منه سبحانه والإرادة. فسبحان علام الغيوب، ومقلب القلوب، ونسأل اللّه الواحد الحميد أن ينفعنا بما علمنا، و أن يَمُنَّ علينا بإيزاع الشكر فيما امتن به علينا. ومما يُحْتَج به على أهل هذا المقال، المتحيَّرين في اللّه الضُّلاَّل، أن يقال لهم: خبرونا عن إرادة اللّه سبحانه لخلق السموات والأرض، هي إرادته لإبادتهما وتبديلهما في يوم الدين؟(1/194)
فإن قالوا: نعم، قيل لهم: فهلا وقعت بهما الإبادة والتبديل مع وجود خلقهما سواء سواء، فقد يلزمكم ـ في أصل قولكم وقياسكم ـ أن تقولوا: إن الأرض والسماء قد بادَتَا وبدلتا، ساعةَ ما خُلِقَتَا وأُوْجدتا؛ إذ اللّه سبحانه قادر على ما يشاء؛ وإذ مراده نافذٌ ماضٍ أبداً؛ لأنكم تزعمون أن إرادة اللّه لخلقهما وإيجادهما هي إرادته لإبادتهما وتبديلهما، ومتى كانت الإرادة في ذلك واحدة سواء؛ فلا شك أن المراد يقع مجتمعاً معاً، لايسبق بعضه بعضاً؛ إذ لم يتقدم من الإرادة شيءٌ شيئاً.(1/195)