كتاب المسترشد(1)
m
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله الطيبين وسلم عليهم أجمعين.
الحمد لله الذي علا بطوله، وجل بحوله، الداني في علوِّه، والنائي(2) في دنوِّه، رب العالمين، وفاطر السموات والأرَضِين، الذي بان(3) عن مشابهة المخلوقين، وتقدَّس عن مناظرة المحْدُودين، المتجلِّي لعباده الموقنين؛ بما أراهم من بدائع فعله في المربوبين، بل بما أراهم في أنفسهم من عظيم تدبيره، وبين لهم فيهم من لطيف صنعه وتقديره، فكلهم يشهد له ضرورةً بالربوبية، وينطق له ويقر بالفعل والأزلية، كما قال ذو الجلال والسلطان؛ فيما نزل على نبيه من النور والفرقان، حين يقول سبحانه وتعالى عن كل شأن شأنه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ}[الزمر: 38]، وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}[العنكبوت: 61]، فسبحان الذي عِلْمه بخفيات ضمائر الصدور، كَعِلْمِه بما بان وظهر من الأمور، الذي لا تخفى عليه الخفيات، ولا تستتر عنه المستورات، ولا تحتجب عنه المحجوبات، ولا تَعْرُوه الغفلة والسنات، ولا تنتظمه بتحديدٍ الصفات، ولا تنقصه الأيام والساعات، بادئ خلق الإنسان من طين، والباعث له يوم الدين، المجازي لعباده على أعمالهم، المحيط بالصغير والكبير من أفعالهم، مقيل العثرات، وغافر السيئات، المعطي على الحسنة حسنات(4)، قابل التوبة من التائبين، الواحد الفرد الكريم، الرءوف بعباده الرحمن الرحيم، العدل في أفعاله الجواد، البريء من جميع أفعال العباد، المتعالي عن اتخاذ الصواحب والأولاد، كذلك اللّه ذو العزة والأياد.
__________
(1) في (ج): الجزء الأول من جزئين من كتاب المسترشد. وفي هامش ط: عبارة. وفي (أ): وكفى وصلى الله على محمد المصطفى وعلى من طاب من عترته وزكى. وفي (ج): وحسبي الله ونعم المولى ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي القدير.
تنبيه: جرينا في ترتيب كتاب المسترشد على النسختين (أ) و(ج)، وفي (ب) اختلاف في الترتيب.
(2) النائي: البعيد، ولا يخفى أن المراد التجوز عن حضوره بعلمه، وبعده بذاته عن المماسة.
(3) بان هنا بمعنى: بَعُد.
(4) في (ج): الحسنات.(1/186)


وصلى اللّه على محمد خاتم النبيين، ورسول رب العالمين، والحجة على جميع المخلوقين، المصلح لله في بلاده، والداعي إليه جميع عباده، السراج الزاهر المنير، صفوة اللطيف الخبير.
ثم نقول من بعد الحمد لله والصلاة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم:
[باب تفسير معنى العزة في حقه تعالى]
إن سأل سائل فقال: ما معنى قول اللّه ذي الجلال: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: 8]، وقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الصافات: 180]، وقوله: {العَزِيزُ الْجَبَّارُ}[الحشر: 23]؟
قلنا له ـ إن شاء اللّه تعالى ـ : إن معنى العزيز هو: الممتنع الذي لا يُرَام(1)، ولا يُنَاصى ولا يُضَام، ولا يَعِزُّ أبداً من أذل، ولا يَذِلُّ أبداً من أعز، الذي(2) لا يعجزه شيء، ولا يقدر عليه شيء، مُدْرِك مَطْلُوبيه، وغالبُ مُغالبيه، ومُذلُّ مُناصبيه(3).
وأما العزة فهي: العزة التي أعز اللّه بها عباده المؤمنين، وأولياءه المتقين.
__________
(1) الرَّوم: الطَّلب، والمناصاة: المنازعة، والمعنى أنَّه سبحانه لعظمته لا يطلب ولا يغلب.
(2) في (أ): فسبحان الذي.
(3) المُناصب: العدو.(1/187)


فأول إعزازه لهم محبته إياهم، ورضاه عنهم، وغفرانه ذنوبهم، وتأييدهم وتوفيقهم، فإذا فعل ذلك بهم فقد أعزهم وأَيَّدهم، وأعطاهم من العزة ما لم يعط غيرهم، مع ما جعل وأعطى أهل المعرفة به والدين، والإخلاص له والعلم واليقين، من أهل بيت الرسول عليه وعليهم أفضل السلام(1) من الكرامة، والولاية والاستخلاف في الأرض والإمامة، فحكم بالأمر والنهي والطاعة لمن كان كذلك منهم حكماً، وعزم به لهم دون غيرهم عزماً، فجعلهم خلفاء الأرض الهادين، القائمين بقسط رب العالمين، وأمناءه على جميع عباده المؤمنين، يأمن في سلطان من كان على ما ذكرنا منهم المؤمنون، ويخاف في دولتهم وقربهم الفاسقون، خافضين لأجنحتهم، واضعين لجبريتهم، أَوِدَّاؤهم المطيعون لله وإن بعدت أرحامهم، وأعداؤهم المحادُّون له وإن قربت أنسابهم، فهم كما قال اللّه سبحانه فيهم، وفيمن كان من أوَّليهم وآبائهم، حين يقول: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَينَكُمُ العَدَاوَةُ وَالبَغَضْاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[الممتحنة: 4] اتبعوا قول اللّه وعملوا به، حين يقول جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} إلى قوله: {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[المجادلة: 23]. أهل(2) فظاظة على الكافرين وغلظة، ورحمة بالمؤمنين ورأفة ورِقَّة، يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويبتغون الفضل من اللّه
__________
(1) سقط من (أ) من أول الكتاب قدر ورقة وما أثبته من (ب) و(ج).
(2) في (ب) و (ج): فهم أهل.(1/188)


والنجاة، ويطلبون منه الرضوان والرحمة(1) والحياة، فهم كما قال اللّه سبحانه فيهم وفيمن تقدم من آبائهم، ومن سلك مسلكهم(2) من أوِدَّائهم(3)، بهم ضرب اللّه الأماثيل في التوراة المطهرة والإنجيل، وهم وُعِدُوا في واضح التنزيل الرَّحمةَ والمغفرةَ والجزاءَ العظيم، ألا تسمع كيف يقول في ذلك الرحمن الرحيم: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} إلى قوله: {مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}[الفتح: 29]؟ فأي عزة أعز من عزة أولياء الرحمن(4) وحزبه، وأعداء الشيطان وحربه، الذين جعلهم اللّه حُكَّام أرضه، وأطلق أيديهم في إنفاذ حكمه، وأوجب طاعتهم على جميع خلقه، وأمرهم بمجاهدة الكافرين، وضمن لهم النصر على من خالفهم من الفاسقين، أولاد النبي، ونسل الوصي، ومعدن العلم والرحمة، والبر والفضل والحكمة، مختلف الملائكة المقربين، ومهبط وحي رب العالمين، الذين من الرجس طهروا(5)، وبولادة الرسول كرموا(6)، وبذلك في التنزيل ذكروا، وذلك قول الرحمن الرحيم، فيما أنزل من النور الكريم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33]، وَلَكَثيرٌ ما جاء من تفضيل اللّه عزَّ وجل لآل الرسول، فيما نزل من واضح التنزيل والقول، مما يطول ـ لو شرحناه ـ به الكتاب، ويعظم ويجل به القول والخطاب، والحمد لله على ما خصنا به من الفضل المبين، وجنبنا سبحانه عن الحظ الغبين(7).
باب جامع لمعاني الإرادة من اللّه وتفسيرها
والرد على من قال من الخلق بأزليتها
[إرادة الله في أفعاله]
__________
(1) سقط من (ب): والرحمة.
(2) في (ب): سبيلهم.
(3) في (ج): من أولادهم..
(4) في (ب): فأي عزة أعز عزاً من أولياء الرحمن.
(5) في (ب): طهرهم.
(6) في (ب): كرمهم.
(7) الغبين والمغبون: الضعيف.(1/189)


إن سأل سائل فقال: أخبرونا عن إرادة اللّه ذي الجلال، أتقولون: إنها قديمة أوَّليَّة، كالعلم والقدرة أزلية.
قيل له: إن العلم والقدرة خلاف ما سألت عنه من الإرادة؛ لأن العلم والقدرة من صفات الذات، والإرادة حادثة بإحداث المحدثات، والإرادة فمخلوقة محدثة كسائر المحدثين، والعلم والقدرة فأزليان غير مخلوقين.
والدليل على ما قلنا به وفيه من ذلك، والشاهد لنا على أنَّه في اللّه سبحانه كذلك، أن العلم والقدرة لو كانا شيئين محدثين، لكان يلحق بالله عزَّ وجل العجز والجهل في الحالين؛ لأنَّه إن جاز أن يكون فَيْنَةً(1) غير عالم؛ فقد كان بلا شك جاهلاً، وإن جاز أن يكون فينة من الدهر غير قادر فقد كان بلا مرية في العجز داخلاً، والله يتعالى عن ذلك، فقد ثبت بحمد اللّه أنَّه لم يزل قادراً عالماً، ومن الآفات والصفات الزائلات الناقصات سالماً؛ وإذ قد صح أنَّه لم يزل عالماً قادراً في كُلَّ الحالات والأوقات؛ فقد صح أن العلم والقدرة من صفات الذات.
وأما الإرادة منه جل جلاله عن أن يحويه قول أو يناله فمُحْدَثة مُكَوَّنة موجودة، وعن صفات ذاته زائغة بائنة، تحدث بإحداث فعله؛ إذ ليس هي غير خلقه وصنعه؛ لأن إرادته للشيء خلقُهُ له، وخلقُه له فهو إيجاده إياه، وإيجاده إياه فهو إرادته له، فإذا خلق فقد أراد وشاء، وإذا أراد فقد خلق وبرأ، لا فرق بين إرادته في خلق الأجسام ومراده؛ لأن إرادته لإيجاد الأجسام؛ هو خلقه لما فطر من الصور التَّوَامِّ، لا تتقدم له إرادة فعلاً، ولا يتقدم له أبداً فعل إرادة، ولا تفترق إرادته وصنعه، بل صنعه مراده، ومراده إيجاده.
__________
(1) الفَيْنةُ: الساعة والحين.(1/190)

38 / 209
ع
En
A+
A-