وكذلك كل ما خلقه الله أو يخلقه فلا يُدْرَكُ به إلاَّ ما كان محدثاً، وكذلك كل ما في قدرته أن يخلقه؛ مما ليس في حكمه أن يكوِّنَه؛ فلو خلقه أو صنعه لم يُدْرَكْ به إلاَّ ما كان محدثاً. والله فهو القديم الدائم، فلا عين تراه، ولا يدرك بأداة، إنما يعرف بخلقه، ويستدل عليه بآياته، وتدبيره في سمائه وأرضه، من صغير الخلق وكبيره، وقليله وكثيره. فذلك سبيل العلم به، والوصول إلى معرفته، وتحقيق ربوبيته.
وتصحيح الإيمان به، أنَّه خالق هذا الخلق ومدبره، وصانعه ومقدره، وربه وإلهه ومالكه، لا شريك له ولا نظير، ولا معين ولا وزير، ولا ند ولا ضد، ولا شبه ولا مثل. وأن من شبهه بشيء من خلقه كائناً ذلك الشيء ما كان، أو وصفه بتحديد، أو زعم أن أن بيننا وبينه حجباً ساترة، وأنه لو رفعت تلك الحجب لأدركناه ورأيناه، فقد قال قولاً عظيماً. وأن من وصفه بالكيفية والماهيّة فقد جهل واجترأ، وأن من زعم أنَّه لا يعبد شيئاً؛ فهو كما أخبر عن نفسه لا يعبد شيئاً، ومن قال هو خالق الشيء ولا يقال له شيء؛ فقد حار وجار عن طريق القصد والهدى.(1/181)


وأن الله علام الغيوب لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا في الدنيا، وأنه القادر الذي لا يعجزه شيء من الأشياء، لم يزل عالماً قادراً، ولا يزال قادراً عالماً، ليس لقدرته غاية، ولا لعلمه نهاية، وليس علمه وقدرته سواه، هو القادر لا بِقُدْرَةٍ سواه، والعالم لا بعلم سواه، وهو السميع البصير، ليس سمعه غيره، ولا بصره سواه، ولا السمع غير البصر، ولا البصر غير السمع، ولا يوصف بسمع كأسماع المخلوقين، ولا ببصر كأبصارهم، تعالى الله عن ذلك. ولكنه سميع لا تخفى عليه الأصوات، ولا الكلام ولا اللغات، بصير لا تخفى عليه الأشخاص، ولا الصور ولا الهيئات، ولا مكان شيء من الأشياء وموضعه، ولا يغيب عليه شيء من أمره وحاله، لم يزل سميعاً بصيراً، ولا يزال كذلك تبارك وتعالى. وأن له قدرة وعلماً، وسمعاً وبصراً، ليس ذلك على إضافة شيء ثان إليه تبارك وتعالى، ولا كما ظن المشبهون أن له وجهاً وصورة وتخطيطاً، وأنَها نفس في جسد، حاش لله من ذلك، ولكنه على تحقيق إثباته جل جلاله.(1/182)


وأن من زعم أن علمه محدث، وقدرته محدثة، كان غير عالم ثم علم، وغير قادر ثم قدر؛ فقد قال قولاً عظيماً. ومن قال: إن علمه وقدرته وسمعه وبصره صفات له، وأنه(1) لم يزل بها موصوفاً قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن يكون أحد يصفه بها، وقبل أن يصف هو بها نفسه، وتلك الصفات ـ زعم ـ لا هي الله، ولا هي غير الله؛ فقد قال منكراً من القول وزوراً. ومن قال بهذه المقالة، ثم زعم أن هذه الصفات لا هي الله ولا هي غير الله؛ فقد أتى إثماً مبيناً. ومن قال: ليس لله علم ولا قدرة، ولا سمع ولا بصر؛ فقد جهل واجترا، وقال مقالة الزور والفرآء، ومن قال: لا يقال لله علم، ولا يقال ليس له علم، فقد ضيع من الدين واللغة حظاً نافعاً. ومن قال: علم الله هو الله، وقدرة الله هي الله، وسمع الله هو الله، وبصر الله هو الله؛ فقد قال في ذلك بالصواب. ومن قال: علم الله محدث أحدثه الله، وفعل فعله، وهو حركة؛ والحركة زوال من مكان إلى مكان؛ فقد افترى على الله الكذب. ومن قال: لا يعلم الشيء حتى يقدره، فإذا قدره علمه. وكذلك من قال: محال أن يعلم الشيء قبل أن يكون. وكذلك من زعم أنَّه على العرش دون السموات والأرض.
وأنه ليس في السماء ولا في الأرض، ولكن علمه في السموات الأرض، وفي كل مكان علمه، وفي كل شيء علمه، وعلمه معنا حيث ما كنا، وعلمه منا قريب، وهو إلينا أقرب من حبل الوريد. فأما الله فهو منا بعيد، لا أنَّه في موضع محدود، وليس هو في سائر الخلق موجوداً(2)، وكذلك من زعم (أن لله خنصراً أو بنصراً، أنَّه أخرج خنصره للجبل لما تجلى له، ومن زعم) (3) أن له وجهاً حاراً لو كشفه لأحرق ما أدركه بصره.
وأن له كفاً محدودة، وأصابع معدودة، وأنامل باردة، وساقاً وقدماً، ولساناً وفماً. وكذلك من زعم أنَّ له حداً ومقداراً، وصورة من الصور، وهيئة من الهيئات. وكذلك من زعم أن الله تبدو له البدوات.
__________
(1) في (ب): لأنه.
(2) في (ب) و(ج): موجود.
(3) زيادة من (ج).(1/183)


وأنه يريد أن يفعل الشيء ثم لا يفعله لنيّة تبدو له فيه، وأنه يخبر أنَّه سيفعل كذا وكذا ثم يبدو له فيه فلا يفعل؛ فكل هؤلاء قد قال الكذب، وقال ما لا برهان له به ولا سلطان، فتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
[تكليف أهل الفترات]
وندين بأن حجة الله قائمة على أهل الفترات البالغين، الأصحاء السالمين؛ بفطر عقولهم، وما يجدونه في أنفسهم، وما يرونه في سموات الله وأرضه، وما يأتي به الليل والنهار، من عجائب تدبيره، وما قد ورد عليهم من أخبار الأنبياء المتقدمين، وأخبار كتبهم وشرائعهم وأحكامهم، ودعوتهم القائمة إلى عبادته وحده، وإثبات ربوبيته وطاعته، وإثبات جنته وناره،ووعده ووعيده، والإيمان بالبعث والنشور، وأن لا يشركوا بعبادته أحداً، ولا يعبدوا شيئاً سواه، وأن لا يطاع المخلوق في معصية الخالق؛ فمن عرف من أهل هذه الفترات حق الله الذي أوجبه عليه، وآمن به وأطاعه، ولم يعبد شيئاً غيره، واجتنب جميع ما حرم الله عليه، وصدق الأنبياء، وآمن بكتاب الله وملائكته ووعده ووعيده، وجنته وناره، وبالبعث بعد الموت، والنشور(1) والحشر إلى يوم القيامة، والحساب، والثواب والعقاب، حتى يموت على ذلك فهو من أهل ثواب الله وجنته، ومن خالف ذلك إلى الجحود والكفر والشرك؛ فعبد شيئاً مع الله، أو شيئاً دون الله، أو جحد القيامة والبعث والنشور، ولم يؤمن بجنة ولا نار، ولا حساب، ولا ثواب ولا عقاب، ولا وعد ولا وعيد، حتى يموت على ذلك؛ فهو من أهل النار خالداً مخلداً فيها أبداً.
وندين بالإيمان باللوح المحفوظ على ما ذكره الله في كتابه، ودان به رسوله صلى الله عليه وعلىآله وسلم.
[حكم الله في المؤمن الذي سبق العلم بانتقاله عن الإيمان]
__________
(1) في (ب): والنشر.(1/184)


وندين بأن من كان مؤمناً بالله، عاملاً بطاعته، مؤدياً لفرائضه، مجتنباً لمحارمه، وقد علم الله منه أنَّه سيغير ويبدل، وينتقل من الإيمان إلى الكفر، ومن هدى إلى ضلالة؛ أنَّه في حال إيمانه وطاعته؛ ولي الله، مستوجبٌ لثوابه وجنته، وأن الله محبٌ له راض عنه ما دام متمسكاً كذلك، فإذا بدل وغيّر، وانتقل من الإيمان إلى الكفر؛ صار عند الله عدواً لله، ملعوناً مستوجباً لسخطه وناره. ولو أن عبداً كفر بالله، وعمل بمعصيته وترك طاعته، وفي علم الله أنَّه سيتوب ويؤمن، أنَّه في حال كفره ومعصيته عدو لله ملعونٌ، مستوجبٌ لسخط الله وناره، فإذا تاب وآمن صار ولياً لله، مستوجباً لثوابه وجنته؛ لأن الله جل جلاله لا يعادي على العلم، ولا يوالي عليه، ولا يثيب عليه ولا يعاقب عليه(1)، ولا يسخط على من لم يسخطه، ولا يغضب على من لم يغضبه، ولا يرضى على من لم يرضه.
تم كتاب الديانة وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
****
رسائل
خاصة بالتوحيد
__________
(1) يعني أن الله جل وعلا لا يوالي أحداً على ما علم منه من الطاعة ولا يعادي أحداً على ما علم منه من المعصية حتى يفعل ذلك، وعند ذلك يصير مستوجباً.(1/185)

37 / 209
ع
En
A+
A-