فأما رسل الله صلوات الله عليهم فقد قاموا بحجج البلاغ، وأدوا وظائف الحقوق، وبلغوا ما عليهم من فرض النصيحة، وأنفذوا شرائط الله عليهم في خلقه، وأوقفوا العباد على سبيل النجاة(1)، وسلكوا بهم منهاج السلامة، وحذروهم طرق الحيرة، واحتملوا في جنب مرضاته الصبر في البأسآء والضرآء، صلوات الله عليهم ورحمته وبركاته.
وفيما بين أزمنة الرسل فتراتٌ في مثلها يتحير الضلال، ويدفن الحق، ويغمض البرهان، بتظاهر(2) الجبارين على أولياء اللّه وأهل طاعته، وهنالك يندب الشيطان ولاته، ويبث دعاته، وينصب حبائله، ويدخل على الناس الشبهة، ويضطرهم إلى الحيرة.
__________
(1) أوقفه: أطلعه وأعلمه.
(2) في (ب): بتظافر.(1/176)
وليست فترة من الهدى، ولكنها فترة من الرسل، وفيها كتبه وحججه، وبقايا من أهل العلم يحيون العلم ويحيون به، قد وجهوا لله رغبتهم، وامتحنهم الله بأهل دهرهم، قد تمسكوا بنور كتابه، وعرفوا مواقع حججه، في كل بدعة حدثت، أو شبهة نزلت، فهم من الناس في أذى وجهد، ومن الله سبحانه في كلاءة وحفظ، فهم الأقلون عدداً، والأعظمون عند الله قدراً، ولن تخلوَ أمةٌ من مغتال لها مفرق لجماعتها، وآخر داع إلى هداها وصلاحها؛ ممن نظر فاعتدلت فطرته، وصفت طبيعته، وكان نظره بعين النصيحة لنفسه، قد ملَّك عقلَه الحكم على هواه، وقيد شهواته بإسار الذل تحت سلطان الحكمة، فأسلمه ذلك إلى مباشرة اليقين بربه، فاستلان ما استوعر منه (المترفون ، واستأنس إلى ما استوحش منه)(1) الجاهلون، وصحب الدنيا أيام حياته وقلبه معلق بالمحل الأعلى، لا تعتريه سآمة ولا فتور؛ من طلب ما أمل من عيش مقيم، قد أيقن بالخلف فجاد بالعطية، دلَّهُ الله فاستدل، وخاطبه ففهم عنه أحسن الإرشاد، طيبة نفسه(2) بكل ما بذل في جنب الله؛ لأنَّه هجم على اليقين، وأنس بالتقوى، فضمنت له النجاة، وخرج من غمرات الشكوك إلى روح الإستيقان، فأقام الدنيا مقامها الذي أقامها الله، واستهان بالعاجلة، وآثر العاقبة، ومهّد لطول المنقلب.
__________
(1) سقط من (ج).
(2) في (ب): طيب بذلك نفسه.(1/177)
ولن يعدم أن يكون في الخلق من قد استبهم عن الفهم(1)، وولج في مضائق الحيرة، أعمى حيران، يدعو إلى العمى، ويقول: اعتزل البدع، وفيها اضطجع، ويقول: اجتنب الشبهات وفيها وقع، متبع لآثار أَوَّلِيه، مقتد بآبائه، أكثر ما عنده تقليد أسلافه، وائتمان أكابره. والإنسان على ما جرت عليه تربيته، والإلف إلى ما سبق إلى اعتقاده، ضنين بفراق عادته، لم يَتَقَسَّم التفتيش قلبه، ولم يُجْرِ في طلب طرق البحث فكره، ولم تميزه المناظرة، ولم يعتوره الإحتجاج، ولم يَتَنَسَّم(2) روائح اليقين، ولا نظر في العلل التي معرفتها نهاية الإستبصار، متوسدٌ غمرة الإختلاف وحيرة الفرقة، غُفْلٌ عن تمييز الأمور، فهو عقيم القلب من لقاح الهدى، ظمآن إلى مرشد يحسن تبصرته، ويريه الحق من وجوهه، وليس على يقينٍ مما اعتقد، والظن مستول على قلبه، والشبهة دواؤه، والحيرة ثمرته، نتاج إرادته الإختلاط، ولكل أمر سبب، والعلل كثيرة، والأسباب متفاوتة، مجتمعة ومفترقة، لا يميزها إلاَّ من وطئ أوائل الأمور التي بها يهجم على معرفتها، ولكل شيء منها حد متى تُعُدِّي سلَّم متعديه إلى الهلكة؛ لأنَّه جاز(3) الحدود المضروبة له.
__________
(1) يعني لحق بطبع البهيمة فلم يفهم.
(2) في (ج): يتنشق.
(3) في النسخ جرع كذا، وما أثبته من هامش (ج).(1/178)
فواجب على كل بالغ عاقل أن ينظر في نجاته، ولن ينتفع ناظر بنظره إلاَّ بسلامة قلبه من الزيغ، وطهارته من الهوى، وبراءته من إلف العادة التي عليها جرى، والقصد بإرادته ونيته إلى العدل والنصفة، وإعطائه كل أمر من الأمور بقسطه، والحكم عليه بقدره، وأخذ نفسه بالوظائف المؤدية له إلى النجاة، وحراسة قلبه من الأمور المسلمة له إلى الضلال، والحائلة بينه وبين حسن الإصطفاء، وإصابة الصواب(1)، وترك التقليد، ويكون طالباً لقيام الحجة، لازماً لمنازل القرآن، متمسكاً به، مؤثراً له على ما سواه، ملتمساً للهدى فيه، فلن يعدم الهدى من قصد قصده(2)؛ لأن الله جل ذكره ضمن لمن اتبع هداه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
فبمثل هذه الشروط يستبان البرهان، ويستشف الغامض من الصواب، وتستبان دقائق العلوم، ويهجم على مباشرة اليقين بربه، فيهتك الشكوك عن قلبه، ويؤيد بنصرته، ويسعد في درجات اليقين بربه، أولئك أهل العقول الراجحة، والفطن الصحيحة، والآراء السليمة، وأولئك بقية الله في خلقه، وخيرته من عباده، وخلصاؤه من بريته، وأوتاد أرضه، ومعادن دينه.
تم والحمد لله وحده، تم كتاب البالغ المدرك وصلواته على محمد النبي وآله وسلم تسليماً.
__________
(1) في (ج): واختيار الصواب
(2) في (ج): قصدُه قصدَه.(1/179)
كتاب الديانة
m
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن رسول الله صلى الله عليه:
إنَّا ندين بأن الله واحد أحد، ليس له شبيه(1) ولا نظير، ولا مثل ولا عديل، ولا كفؤ في وجه من الوجوه، ولا معنى من المعاني.
وأنه ليس بذي صورة، ولا حد ولا غاية ولا نهاية، ولا بذي أجزاء ولا أعضاء، ولا بعضه غير بعض، ولا يقع عليه الطول والعرض، ولا يوصف بالهبوط ولا الصعود، والتحرك والسكون، والزوال، والعجز والهرب والجهل والانتقال(2)، والتغير من حال إلى حال، ولا يحويه مكان، ولا يمر عليه وقت ولا زمان.
وأنه قبل كل مكان، وحين وأوان، (ووقت وزمان)(3)، وأنه خلق المكان من غير حاجة إليه، وإنما خلقه لحاجة الخلق إليه، وأنه في السماء إله، وفي الأرض إله، وفي كل مكان إله، خالق مدبر، تعالى من غير أن يحويه شيء، ولا يحيط به، ومن غير أن يكون حملة العرش يحملونه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، (وأنهم يحملون العرش، وأما الله ـ سبحانه وبحمده ـ فإنه أعز وأجل من أن يحمله أحد من الخلق، والخلق أعجز وأضعف من أن ينالوا ذلك منه أو يقدروا عليه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) (4) ومن غير أن يكون كما يستوي الإنسان على سريره، ولكنه استوى على العرش ، والعرش فهو: الملك، واستواءه مُلكه وقهره، بلا ند يشاوره، ولا ضد ينافره، ولا معين يوازره، وهو كما قال الملك في كتابه، بلا كيف، ولا تمثيل، ولا تحديد.
وأنه شيء لا كالأشياء، ولا شيء يعد له سبحانه وبحمده.
وأنه ليس بجسم ولا جسد، ولا فيه صفة من صفات الأجساد، ونعتها وهيئتها، من تأليفها واتصالها، واجتماعها وافتراقها، وكينونة بعضها على بعض على المجامعة والمفارقة والمباشرة والدخول والخروج، والقرب في المسافة، والبعد في العزلة، والغيبة وطول السفر. وأنه لا يحتجب بشيء من خلقه، ولا يستتر به، ولا يبدو له فيدركه (وأن الفكر لا يبلغه، وأن العقول لا تقدره، والأوهام لا تناله، والضمائر لا تمثله، والأبصار لا تدركه)(5)، وأن العيون لا تراه لا في الدنيا ولا في الآخرة. وأن من زعم أن الأبصار تدركه، وأن العيون تراه مجاهرة؛ فقد قال قولاً عظيماً. وأن من زعم أن العيون(6) تكيفه، أو قال يرى في القيامة بشيء مما عليه العباد، فيرونه بذلك الشيء أو يدركونه، وسمي ذلك الشيء حاش لله فقد قال إفكاً وزوراً؛ لأن كل من وقفت عليه الرؤية فمحدث ، وما مسته الأيدي أو سمعته الأذان أو أدركه الذوق أو الشم فمحدث.
__________
(1) في (أ) و(ج): شبه.
(2) في (أ): والهرم والسقم والإنتقال.
(3) ليس في (أ).
(4) سقط من (أ) و (ج).
(5) صح في (أ) و(ج).
(6) في (أ): العين.(1/180)