ولا أسبّ إلاَّ من نقض العهد والعزيمة، وفي كل وقت له هزيمة، من الذين بالنفاق تفرَّدوا، وعلى(1) الرسول صلى الله عليه مرة بعد مرة تمردوا، وعلى أهل بيته اجتروا وطعنوا.
وإني أستغفر الله لأمهات المؤمنين، اللواتي خرجن من الدنيا وهن من الدين على يقين، وأجعل لعنة الله على من تناولهن بما لايستحققن من سائر الناس أجمعين.
ولا أنكر الحوض، ولا الشفاعة. {لَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال: 42]. {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}[فصلت: 46].
فهذا ديني واعتقادي والحمدلله رب العالمين، وصلواته على خير خلقه أجمعين، محمد وعترته الطيبين، وسلم عليهم أجمعين، وحسبنا الله ونعم المعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
****
__________
(1) في (ب): وعن.(1/171)
كتاب البالغ المدرك
m
بالله تعالى أستعين وأتوكل.
قال الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: يجب(1) على البالغ المدْرِك في بلاد الكفر وغيرها؛ أن ينظر إلى هذه الأعاجيب المختلفات؛ المدركات بالحواس، من السماء والأرض وما بث فيهما من الحيوان، المجتلبة إلى أنفسها المنافع، ، النافرة عن المضار؛ أنها محدثة؛ لظهور الإحداث فيها، معترفة بالعجز على أنفسها؛ أنها لم تصنع أنفسها، ولم تشاهد صنعتها، وتعجز أن تصنع مثلها، وتعجز أن تصنع ضدها. فلما شهدت العقول على أن هذا هكذا؛ ثبت أن لها مدبراً حكيماً دبرها، ومعتمداً اعتمدها، وقاصداً قصدها، ليس له شبيه، ولا مثيل؛ إذ المثل جائز عليه ما جاز على مثله؛ من الانتقال والزوال، والعجز والزيادة والنقصان. وأنَّ بإحداثه إياها له المنّة عليها، إذ كانت الرغبة(2) منها في البقاء، ونفورها عن الفناء؛ دالةً على المنّة عليها بالبقاء، وأن الممتن عليها ببقائها؛ هو المنعم عليها بإحداثه إياها.
__________
(1) في (ب): قال عليه السلام: يجب. وفي (ج): قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم: يجب.
(2) في (ب): الرغبة بالبقاء لها في البقاء.(1/172)
فإذا علم البالغ(1) أن هذا هكذا، كان عليه أن يشكر المنعم عليه، فإذا علم أن شكر المنعم عليه واجب؛ كان عليه يشكر المنعم(2)، وشكر المنعم عليه هو: الطاعة له، وفي الحكمة التقويم بين المطيع والعاصي، وفي ذلك إيجاب الثواب والعقاب. فلما تصرمت أعمار المطيعين ولم يثابوا، وتَقَضّت آجال العاصين ولم يعاقبوا؛ وجب على قَوَد التوحيد واطراد الحكمة أنَّ داراً بعد(3) هذه الدار؛ يثاب فيها المطيعون، ويعاقب فيها المسيئون. وهذه أمور أوجبتها الفطرة، واستحقت بالإيمان، وقليلٌ مَن تقررت المعرفة في قلبه إلاَّ باستقرار أوليها، وشهادة بعضها على بعض، وتضمين كل شيء منها ما قبله وبعده، واستطراد ذلك كله في العقول.
فلما أن كان ذلك كذلك، كان في ضرورة العقل أن لا سبيل له إلى علم كيفية الطاعة دون الخبر(4) من عند المنعم بكيفيّة الطاعة، إذ لا يمكن الخبر من الله مُلاقاةً لله، فإذا علم أن الخبر لا يمكن من الله مشافهة لله، علم أن خبر الطاعة لا يمكن إلاَّ برسول من عند المنعم، بائن من البشر في أعلامه وأفعاله.
فمن هاهنا لزم البالغ المدرك أن يعلم أن لله رسولاً من قبل(5) أخبار الناقلين، فلما لم يَجُز إلاَّ بعثة الرسل، وكانت الرسل من البشر، وفي مثل تركيب المبعوث إليهم، وعباداً لله مثلهم؛ لم يَجُز تصديقهم على الله إلاَّ بدلالة بينة، وحجة قاطعة؛ يعلم الخلق بعجزهم عنها أن الله تولى ذلك على أيديهم، فجاءت الرسل بالآيات التي ليس في قوى الخلق المجيء بمثلها، فوجب تصديقهم على الله بعد الحجة والبيان.
__________
(1) في (ج): المدرك.
(2) في (أ) العبارة هكذا: كان عليه أن يعلم أن شكر المنعم عليه، فإذا كان عليه أن يعلم أن شكر المنعم عليه كان عليه أن يعلم أن شكر المنعم عليه هو الطاعة.
(3) في (أ): غير.
(4) في (ب): عند الخبر.
(5) في (ج): رسولاً لا مِن قِبَل.(1/173)
فمن أدرك أزمنتهم، وشاهدهم في عصورهم، وقامت عليه حجتهم، لزمه الإقرار بهم، والتسليم لأمرهم، والقبول لما جاؤا به، وسقط عنه كثير من الكلفة في تمييز الأخبار، وامتحان الناقلين. وبحسب ما قامت عليه الحجة؛ كلفه الله الذب عن دينه، والقيام بحجته.
ومن تراخت به الأيام عن لقائهم، وكان في غير أعصارهم، كانت الحجة عليه ـ في معرفتهم، والقبول لما جاؤا به، والديانة لما دعوا إليه ـ: توالي الأخبار التي في مثلها يمتنع الكذب، ولا يتهيأ بالاتفاق، ويكون سامعها مضطراً في فطرته إلى أن ناقليها لا يمكن مثلهم الكذب، ولا التواطؤ على مقالة(1)، كقوم مختلفي الأجناس، متبايني الديار، متقطعي الأسباب، متفاوتي اللقاء، متراخي الأزمنة، ينقلون خبراً واحداً، متسق النظام، محروساً عن الغلط، محصناً عن الوهم، ولعله يجرح(2) في مال أحدهم وبدنه، لا يعارضهم فيه معارض بتكذيب، قد كاد ـ ولَمَّا ـ أن يكون عياناً(3). وقد يجيء بين ذلك أخبارٌ بعضها مستحيل كونه في العقول، ويبعد أن يجيء بمثلها رسول؛ لما فيها من الكذب والزور(4)، ولن تجيء هذه الأخبار مجيء إجماع أبداً، وإنما سبيلها الشذوذ، والغلط في التأويل، وفي معرفة مخرج الخاص(5) من العام، وفي معرفة المحكم من المتشابه.
__________
(1) في (أ): ولا المقالة.
(2) في (ج): يخرج.
(3) في (ب): قد كاد يكون ولما لم يكن عياناً. وهذا هو الخبر (المتواتر). والمعنى: أن مُخبَره قد قارب أن يكون مشاهداً للقطع به وليس هو بمشاهد.
(4) هذا هو (المردود) وهو الذي يحكم العقل باستحالة صدوره عن الرسول لما فيه من المخالفة لصريح المعقول ونص المنقول، وذكر الإمام عليه السلام أنه لايجيء متواتراً أبداً ولامجمعاً عليه وإنما يكون آحادياً وشاذاْ، وأن المشكلة تكون في تأويله ومعرفة مخرجه ووجهه وطريقة الاستدلال به.
(5) في (ب): معرفة الخاص.(1/174)
فمن هذه الأخبار(1): ما هو في أصله منسوخ. ومنها: ما هو في مخرجه عام وفي معناه خاص.
ومنها: متشابه يحتاج إلى بيان. ومنها: ما حفظ أوله ونسي آخره. ومنها: ما روي مرسلاً بلا حجة فيه، ولا تبيان لمتدبريه(2). ومنها: ما دُلس على الرواة في كتبهم(3). فيا لله كيف حارت العقول، وقلدت الأتباع، وتقسمت الأهواء، وتفرقت الآراء، ونبذ القرآن، وغيرت السنن، وبدلت الأحكام ، وخولف التوحيد، وعاد الإسلام غريباً، والمؤمن وحيداً خائفاً، والدين خاملاً.
فتسديدك اللهم وعونك، فإنا لم نؤت في تفرقنا من قَبلِك، ولا في اختلافنا من قَدَرك، كذب المدعون ذلك فيك، وهلك المفترون ذلك عليك، ونحن الشهود لك على خلقك، والناصبون لكل من عند عن دينك، واتهم قضاك، وجانب هداك، وأحال ذنبه عليك، ونَسَبَ جوره إليك، أو قاسك بمقدار، أو شبهك بمثال، وقد قطعت العذر بكتابك المنزل، وأكملت دينك على لسان نبيك المرسل، محمد صلى الله عليه وآله وسلم(4).
أما بعد: فإن الدين لما عفت آثاره، وانطمست أعلامه، واضمحلت أنباؤه، وسدت مطالعه، عندما فقد من أنصاره، والقائمين بحفظه وحياطته؛ نطق الكاظمون(5)، وظهر المرصدون، ولله جل ثناؤه إلى كل رصد من الباطل طلائع من الحق، ومع كل داع إلى الضلال بينات من الهدى، وإلى جنب طريق كل حيرة سببٌ واضح من الإرشاد، وفي كل شيء حجة قاطعة.
__________
(1) هذا تقسيم منه عليه السلام لأخبار الآحاد (المقبولة) باعتبار الواقع وبالنظر للمتن مع توضيح بعض أسباب الاختلاف في قبولها أو ردها، وكذلك في مدلولاتها، وهو تقسيم واقعي ذكي.
(2) لعله يريد (المجمل)، أو الذي ليس له شاهد. ولم يرد (المرسل) عند المحدثين. والله أعلم.
(3) لعله يريد (المدسوس)، ولم يرد (المدلس) عند المحدثين. والله أعلم.
(4) في (ب): تم نصف كتاب البالغ المدرك.
(5) في (ب): الجاهلون. والكاظم: الساكت.(1/175)