وأن شرائع الأنبياء كانت مختلفة، وأنها على اختلافها يجمعها اسم الدين والطاعة والإيمان، والهدى والتقوى والبر والإحسان. وأن بعضهم لم يقصص علينا باسمه، ولم يبين لنا في كتابه، ولا سمى نبياً بعينه، وإن علم ما جهلنا من ذلك كان ديناً وإيماناً فرضه اللّه على تلك الأمم ووضعه عنا.
وأنه لا تجوز لمدع دعواه إلاَّ ببينة، فمن ادعى مما في يد غيره مما لا يدرك علمه إلاَّ بالشهود لم يعط ما ادعاه إلاَّ بشاهدي عدل، أو بإقرارٍ من المدَّعَى عليه للمدَّعِي.
ثم بين سنته في الشهود، فأبطل شهادة كل فاسق منهم أو خصم، وأن بعض الشهود ربما شهدوا بالزور الذي لا يعلمه إلاَّ الله، وأن على الحكام أن يمضوا الشهادة مع جهلهم بما تغيب به الشهود، إلاَّ أن اللّه يعلم(1) أنهم قد شهدوا على باطل.
وأن أفضل الدين كله العلم بالله تبارك وتعالى وبدينه، وأنه لا ينفع قول إلاَّ بعمل، ولا عمل إلاَّ بعلم، في إثبات اسم ولا ثواب. وذلك أن من أقر بالحق ولم يعمل به لم يستحق الأسماء الزكية، ولا ثواب أهلها، ومن ضيع العلم بالله وبدينه لم ينتفع بشيء من علمه، وأن كلهم متعلم، وكلهم محتاج إلى العلم مفضل له ولأهله، وذام للجهل عائب له ولأهله، وأنهم لم يزالوا يتقربون إلى اللّه بالقول السديد والعمل الصالح ويعبدونه بذلك، ويدينون له بذلك(2). وأن اسم دينهم الذي تعبدهم اللّه به، ودانوا به، الذي بُلِّغ: (الإيمان)(3) والإسلام والتقوى والبر ونحو ذلك.
__________
(1) في (أ): إلا أن يعلم.
(2) سقط من (ط).
(3) كذا في ط، وفي هامشه: في أ، ب: بالإيمان. وكذلك في ب، ج.(1/151)
وأن قد حرم اللّه على المسلمين أن يزكوا أنفسهم، وأن قد أوجب عليهم أن ينسبوا جميع المسلمين إلى الإيمان والإسلام، وأنهم قد كانوا يثبتون لهم اسم الإيمان ثم لا يعلمون بسرائرهم، وأنهم قد كانوا يتولى(1) بعضهم بعضاً على أنهم سمعوا منهم بعض ذلك وإن لم يروا منهم عملاً، وكذلك يفعلون فيمن يرونه يعمل، وإن لم يسمعوا منهم قولاً، فإن الاسم الذي قد ثبت عندهم على الظاهر، وإن لم يعلموا الباطن، وأنه لا يحصي أحد منهم جميع ما فرض الله، وأن اللّه لم يكلفهم إحصاءه ولا إحصاء أهله.
وأن دينهم: أنهم يرجون ثواب الله، ويخافون عقابه، وأنه لا خوف على أولياء اللّه في الآخرة ولا هم يحزنون، وأن أولياء اللّه المؤمنون، وأن اللّه قد استحق ولاية وليه وعداوة عدوه على جميع العالمين، (الذين قامت عليهم بذلك حجة الدين)(2) وأن من لم تنفع ولايته وتضر عداوته (من جميع الخلق)(3) معيب عندهم منقوص. وأن اللّه أحق أن تنفع ولايته وتضر عداوته من جميع الخلق.
وأن الأنبياء لم تزل مستحقة لثواب اللّه منذ بعثها الله، وأنها لم تكفر قط، ولم تفسق، ولم تُقِم على شيء من الذنوب بعلم ولا بعمد، وربما أذنبت على [طريق](4) الظن وطريق النسيان، وأن ذنوبها صغائر مغفورة، وأنها لا تأتي الكبائر، وأن من قذف الأنبياء بالكفر والكبائر فهو أولى بالكفر.
وأن المؤمنين مُقِرُّون جميعاً على أنفسهم بالذنوب، وأنهم ينتفون من الكفر والفسق، ويكرهون أن ينسبوا إليه.
__________
(1) في ب: يتولوا.
(2) في هامش ط: غير موجودة في أ، وكذلك في أ.
(3) في هامش ط: غير موجودة في أ، وكذلك في أ ، ج.
(4) ليس في ج، ب.(1/152)
وأن اللّه قد ميز بين صغائر الأمور وكبائرها، فلم يجعل السبة والكذبة والنظرة كالقتل والزنى والربا والسرقة واشباههن، ولم يجعل القتل وأشباهه كالكفر بالنبي صلى الله عليه وآله والكتاب وأشباه ذلك(1)، وأنه قد خالف بين أحكامهن، وأسمائهن واسماء أهلهن، وأنهم لا يشهدون على ذنب بعينه أنَّه صغير مغفور، (إلاَّ أن يكون اللّه قد سمى من ذلك شيئاً في الكتاب بعينه، أو سماه الرسول صلى الله عليه وآله) (2)، ما خلا ذنوب الأنبياء عليهم السلام.
وأنهم لا يزالون يُفَسِّقون أهل الكبائر من أصحاب الحدود، ويبغضونهم، ويشتمونهم، ويحبون أهل الخير وإن أذنبوا على الظن والنسيان، مالم يخرجوا إلى الكبائر.
(وأنه لا ينبغي لأحد أن يشهد على ذنب بعينه أنَّه صغير مغفور)(3)، وأنهم لا يزالون(4) يعظمون القتل والزنا والسرقة ونحوهن ممن فعلها، وأن معنى الكبير(5) والقليل والعظيم واحد.
وأن الجنة دار للمتقين، وأن النار دار للفاسقين.
وأنهم لا يزالون يبغضون من اطلعوا على فسقه وإن كان يستغفر الله حتى يظهر التوبة النصوح.
وأنهم يستحبون أن يكتم كل امرئ على نفسه وإن أصاب حداً، وأن التوبة عندهم مقبولة ممن حدَّ، وممن لم يُحَد.
وأن من سمى أهل الحدود كافرين ثم حكم عليهم بحكم الكفار عابوه، ومن سماهم مؤمنين وحكم لهم بحكم المؤمنين عابوه وعَنَّفوه. وأن اسم الملة اسم يجمع جميع المنظَوِين إلى الإسلام وإن كان فيهم فجور.
__________
(1) في ط: فلم يجعل السبة والكذبة وأشباهه كالكفر بالنبي صلى اللّه عليه وآله والكتاب وأشباه ذلك، والنظرة كالقتل والزنا والربا والسرقة وأشباههن.
(2) ليس في (أ).
(3) سقط من ط، ب، أ.
(4) في أ، ج، ب: لم يزالوا.
(5) في ج: الكثير.(1/153)
وأن اللّه قد بين حكمه في جميع الكافرين من مشركي العرب من أهل اللات والعزى، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، والمجوس، والصابئين، والمنتقلين(1) من جميع أصناف أهل الكفر من دين إلى دين، والمرتدين عن الإسلام بعد إظهار الدين.
وبين حكمه في المؤمنين، والفاسقين، والمنافقين، والمستترين(2)بالكفر.
وأنه لم يكن يقاتل(3) أحداً من المشركين حتى يدعوه، وأنه قد أبان ذلك كله وفصله.
وأنه لا يوجد في زمان النبي عليه السلام كافر ليس بمشرك، وأنهم لا يعتمدون أحداً ممن أقر بالنبي عليه وعلى آله السلام بِكُفْرٍ إلى يوم القيامة، أو يُلْحَق بالمرتدين(4).
وأن النفاق استسرار بالطعن في دين اللّه ودين الرسول، وأن اللّه قد أقام حجته فيما فرض من دينه بتحريم الشك فيه والإنكار له جميعاً.
وأن التَّقية(5) جائزة فيما حُمِل الناس عليه وهم له كارهون، يخافون القتل والمُثْلَة، وذلك فيما لا يرجع ضرره على أحد من العالمين.
وأن رسول اللّه صلى الله عليه وآله قد كان يعذر نفسه وغيره فيما لم يأته به جبريل من الدين، مما لم يعرف إلاَّ بالسمع، مما لم يأت به جبريل عليه السلام حتى يأتيه به. وأنه لم يكن يترك أهل دعوته يظهرون قبيحاً. وأنه لم يكن يكتم شيئاً من الدين الذي أمره اللّه بإظهاره، ولا يعطي فيه تقية، وأنه لم يزل له مظهراً، يأمر أتباعه بإظهاره والدعاء إليه.
__________
(1) في ج، ب: والمتنقلين.
(2) في ج، ب: والمستسِرِّين.
(3) في هامش ط: أي الرسول.
(4) بمعنى إلاَّ أن يلحق بالمرتدين فيرتد.
(5) في هامش ط: هي أن يظهر الإنسان الطاعة حيث تجب عليه الثورة ضد نظام لا ترضاه عقيدته أو موقف يتنافى مع مبدئه، ولقد كان الخوارج، عموماً، ينكرون جوازها، والمؤلف يتخذ هنا موقفاً وسطاً، فيجوزها للمضطرين شريطة أن لا يكون في ذلك ما يتنافى مع الصالح العام ونفع المجموع، أي أن جوازها مشروط بأن يكون الضرر فردياً فقط.(1/154)
وأن الشيطان يحب دفن الدين، ويدعو إلى إماتته. وأنه لا يجوز تغيير شيء مما أثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله، وأن الدنيا فانية، وأن الآخرة باقية أبد الأبد.
(وأن الملائكة والجن والأنس أجناس شتى) (1). وأن الملائكة أفضل برية الله، وانهم مقربون في كل خير، مقربون في كل منزلة، مفضلون في كل ذكر.
وأنه جعل من دينه مُؤَقَّتاً محدوداً: صلاة وصياماً ونحوهما، وجعل منه متمهلاً(2) فيه، لا يدرك حده: بر الوالدين، وصلة الرحم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك من الأمور التي تعرف عند المشاهدة. وأن اللّه لا يُلَبس حكمه، ولا يخلف قوله، و[أن الحق الواجب على المسلمين](3) في دينهم التثبت فيما غاب عنهم، حتى يجيئهم اليقين من تواتر الأخبار وتظاهرها.
وأن اللّه لا يظلم عباده شيئاً، ولا يعذب إلاَّ بعد إنذار، ولا يكلف نفساً إلاَّ وسعها، ولا يحملها إلاَّ طاقتها، ولا يفرض طاعته إلاَّ على أهل الصحة والسلامة، والعقل والقوة، وأنه دعا جميع عباده المكلفين إلى دينه، وأنه يحب طاعته، ويبغض معصيته، وأنه جعل بعض الأعمال أفضل من بعض، وبعض الأقاويل أفضل من بعض، وبعض العلم أفضل من بعض. وأن من العلم غامضاً خفياً، ومنه واضحاً جلياً، وأن جهل بعض ذلك واسع، وجهل بعضه ضيق، وأنه لا ينزل أحدٌ(4) من الناس كلهم منزلة النبي في تصديق له، ولا في تكذيب، ولا شك في قوله(5). وأنهم يعملون(6) بالأخبار المجتمع عليها، ويَشُكُّون في القول الشاذ وإن روي عن النبي عليه السلام.
__________
(1) ليس في أ.
(2) المتمهل فيه: الذي ليس له وقت معين محدد.
(3) سقط في ج. وفي أ: وأن من دينهم.
(4) في ط: لاينزل أحداً.
(5) يريد أن أحداً لا يبلغ في تصديق اللّه وعدم تكذيبه والشك في قوله سبحانه مبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا ينزل منزلته.
(6) كذا في ب، ج، وفي هامش ج: يعلمون. ولعله أصوب.(1/155)