الأصل الثاني: العدل بما يتضمنه من تنزيه الله جل وعلى في أفعاله عن الأفعال الناقصة الذميمة واعتقاد أنها أفعال عدل وحكمة وصواب، وأن الإنسان مسئول عن فعله خيره وشره مجزي عليه {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيْدِ}[فصلت:46]، وأن إرادة الله جل وعلى ـ كفعله ـ منزهة عن تعلقها بالمعاصي والقبائح التي لا تليق بالعدل الحكيم، وكذلك قضاءه وقدره، فلا يفعل الظلم ولا القبيح ولا يريده ولا يشاءه ولا يقدره ولا يقضي به ولا يأمر به ولا يحبه ولا يرضاه، وجماع العدل في فكر الإمام: (( أن الله عز وجل عدل في قضائه جواد في عطائه رحيم بعباده ناظر لخلقه، لا يكلفهم ما لا يطيقون ولا يسألهم ما لايجدون، ولا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه اجراً عظيماً، وأنه لم يخلق الظلم ولا الجور والكفر في العباد، ولم يرد الظلم والفساد ولا الجهر بالسوء من القول، وأنه لا يشأ قتل أوليائه ولا تكذيب رسله، ولا يقضي ولا يقدر شتم نفسه ولا الفرية عليه، وأن من فعل ذلك أو أراد معه الصاحبة والولد فغير حكيم ولا عليم، وأن الله رحمن رحيم حكيم عليم لا يجوز عليه العبث، فكيف يمنع عباده من الإيمان ثم يقول في كتابه: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا}[الإسراء:94، الكهف:55]، {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ} [النساء:39]، {فَمَالَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[الإنشقاق:20]؟ أو يأمرهم بالهدى ويصرفهم عنه ثم يقول: {أَنَّى تُصْرَفُونَ}؟ ويخلق فيهم الكفر ثم يقول: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ الْسَمَوَاتِ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً}[مريم89 ـ 90]؟ بل نقول: سهل ربنا لعباده السبيل، وأقام لهم الدليل، وأرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم القرآن، وجعل فيه الشفا والبرهان، أحل فيه الحلال وحرم فيه الحرام وأقام(1/11)
الحدود والأحكام، ثم مكنهم مما طوقهم، ثم دعاهم جميعاً إلى الإيمان به ثم أمرهم ونهاهم، ثم أمنهم من ظلمه ورغبهم في جزيل ثوابه، ولم يرد منهم غير ما به أمرهم، ولم يزجرهم وينههم عما يريده منهم، ويشاؤه لما في ذلك من خلاف الحكمة والرحمة، كما قال سبحانه: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، ويقول: {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيْمٌ}، وقال: {ولا تزر وزارة ورز أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى} {وما الله بظلام للعبيد} ))(1).
وقد أوضح الإمام هذا الأصل وبينه واحتج له واهتم به ورد فيه على الجبرية القدرية رداً مقنعاً وألقمهم الحجر حتى لقد اختص هذا الموضوع برسالتين قيمتين ضمن هذا المجموع رد فيها على المجبرة القدرية (( الرد على المجبرة القدرية الأول )) و (( الرد على المجبرة القدرية الثاني ))، غير ما تعرض له في غيرهما من مثل (( الرد على ابن الحنفية )) وغيره، مما تراه في هذا المجموع.
الأصل الثالث: النبوة حيث أولاها الإمام اهتماماً لكنه ليس في درجة الأصلين قبلها، وذلك لأنه يجمع المسلمين جميعاً القول بها ووجوب اعتقادها وليست مثار خلاف، بخلافهما ففيهما تظهر شخصية وخصوصية فكر الإمام الكلامي التي تميزه عن المدارس الكلامية عموماً، والتي يقترب فيها من مدرسة الاعتزال وبالذات (( مدرسة البغداديين )) التي يتزعم متأخريها (( أبو القاسم الكعبي البلخي )) والتي يقابلها (( مدرسة البصريين )) التي يتزعم متأخريها أيضاً (( الجبائيان أبو علي وابنه أبو هاشم )).
__________
(1) كتاب أصول الدين.(1/12)
ويتبع هذا الأصل في فكر الإمام أصل آخر، وهو (( الإمامة )) باعتبارها خلافة النبوة، وقد حظيت في فكر الإمام باهتمام بالغ لما تمثله من شخصيته (( الشيعية الزيدية )) المتميزة عن (( الإمامية )) بشتى فرقها، وكذلك عن (( الإسماعيلية )) التي كان لها حضور في اليمن كفكرة وكدولة بزعامة علي بن الفضل ومنصور بن حوشب داعية اليمن الإسماعيلي، وكذلك عن (( السنة )) و (( المعتزلة )).
وقد يلحق الإمام (( الإمامة )) بأصل آخر باعتبارها تشكل مصداقاً عملياً له، وهو (( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )) حيث يرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (( والخروج على الظالمين )) والانتصار للمظلومين والمستضعفين، وإقامة حكم الكتاب والسنة في العباد والبلاد.
يقول الإمام: (( ثم يجب عليه (المكلف) أن يعلم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه وصفوته من جميع بريته خاتم النبيين لا نبي بعده، وقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ثم قبضه الله إليه حميداً مفقوداً، فصلوات الله عليه وعلى اهل بيته الطيبين وسلم.
ثم يجب عليه أن يعلم أن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب أمير المؤمنين وسيد المسلمين ووصي رسول رب العالمين ووزيره وقاضي دينه، وأحق الناس بمقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأفضل الخلق بعده وأعلمهم بما جاء به محمد وأقومهم بأمر الله في خلقه... فكان الهادي إلى الحق غير مهدي، والداعي إلى الصراط السوي والسالك طريق الرسول الزكي، ومن سبق إلى الله، وكان الهادي إلى غامض أحكام كتاب الله فهو أحق بالإمامة؛ لأن أسبقهم أهداهم، وأهداهم أتقاهم وأتقاهم خيرهم، وخيرهم بكل خير أولاهم.
ثم يجب عليه أن يعلم أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحبيباه، وأنهما إماما عدل واجبة طاعتهما مفترضة ولايتهما...(1/13)
ثم يجب عليه أن يعلم أن الإمامة لا تجوز إلا في ولد الحسن والحسين بتفضيل الله لهما وجعله ذلك فيهما وفي ذريتهما...
وأن الإمام من بعد الحسن والحسين من ذريتهما من سار بسيرتهما وكان مثلهما واحتذى بحذوهما؛ فكان ورعاً تقياً صحيحاً نقياً، وفي أمر الله سبحانه جاهداً وفي حطام الدنيا زاهداً، وكان فهماً لما يحتاج إليه عالماً بتفسير ما يرد عليه، شجاعاً كَمِيّاً بذولاً سخياً رؤوفاً بالرعية متعطفاً متحنّناً حليماً، ومساوياً لهم بنفسه مشاوراً لهم في أمره، غير مستأثر عليهم ولا حاكم بغير حكم الله فيهم، قائماً شاهراً لنفسه رافعاً لرأيته، مجتهداً مفرقاً للدعاة في البلاد غير مقصر في تألف العباد، مخيفاً للظالمين مؤّمناً للمؤمنين، لا يأمن الفاسقين ولا يأمنونه، بل يطلبهم ويطلبونه، قد باينهم وباينوه وناصبهم وناصبوه، فهم له خائفون وعلى إهلاكه جاهدون، يبغيهم الغوايل ويدعو إلى جهادهم القبائل، متشرداً عنهم خائفاً منهم، لا يردعه عن أمور الله ولا يمنعه عن الاجتهاد عليهم كثرة الإرجاف، شمري مشمر مجتهد غير مقصر، فمن كان كذلك من ذرية الحسن والحسين فهو الإمام المفترضة طاعته الواجبة على الأمة نصرته ))(1).
هذا رأي الإمام في موضوع الإمامة جملة، فهي عنده بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي، ثم للحسن والحسين عليهم السلام، ثم لمن استكمل تلك الشروط من ذريتهما، وقد اختص الإمام موضوع الإمامة في مجموعه برسائل وأجوبة مسائل منها ما يخص إمامة الإمام علي، ومنها ما يعم أهل البيت عليهم السلام.
وأما في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو يرى وجوبه (( وأن نصر المظلوم والأخذ على يد الظالم فرض لازم وحق واجب؛ لأن في ترك الأمر بالمعروف للحق إماتة، وفي النهي عن المنكر للباطل إماتة ))(2).
__________
(1) كتاب العدل والتوحيد.
(2) كتاب أصول الدين.(1/14)
الأصل الرابع: الوعد والوعيد وما يتعلق به من خلود أهل الكبائر من أهل ملتنا في النار، حيث يجب على المكلف (( أن يعلم أن وعده ووعيده حق من أطاعه أدخله الجنة، ومن عصاه أدخله النار أبد الأبد لا ما يقول الجاهلون من خروج المعذبين من العذاب المهين إلى دار المتقين ومحل المؤمنين، وفي ذلك ما يقول رب العالمين: {خَالِدِيْنَ فِيْهَا أَبَداً}، ويقول: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِيْنَ مِنْهَا}، ففي كل ذلك يخبر أنه من دخل النار فهو مقيم فيها غير خارج منها ))(1).
***
__________
(1) كتاب العدل والتوحيد.(1/15)