الله الرضى والرضوان؛ لأنهم سعوا في إرادة الله ومشيئته، واختار قوم المعصية على الطاعة، فاستوجبوا من الله السخط والعقوبة، لأنهم سعوا في سخط الله وكرهوا رضوانه، {ذَلِكَ بَأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، واتبعوا أهواءهم، وأرضوا الشيطان بفعلهم، فصاروا في حزبه: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشِّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]؛ لأن الله لا يُقدِّر أبداً ما يكره، ولا يقدر إلاَّ ما يرضى، وليست مشيئته تقع إلاَّ على رضاه، ولا يكره إلاَّ ما يسخطه، فاعلم ذلك {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيْدٌ}، كما قال عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ} [هود: 105]، في ذلك اليوم بعمله القبيح الذي قدمه في دار دنياه، ومنهم سعيد بعمله الصَّالح الذي قدمه في هذه الدنيا، ولذلك قال عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيْراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [الأعراف: 179]، يقول: إنَّه يعيدهم ويخلقهم يوم القيامة خلقاً ثانياً (لجهنم)(1)، من خرج من الدنيا عاصياً، وإن كان لفظ (ذرأنا) لفظ ماض فمعناه مستقبل، كما قال: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الأعرف: 44]، ونادى أصحاب الأعراف يقول: إنهم سينادون، لا أنَّه عز وجل خلقهم للنار في هذه الدنيا، وهو سبحانه يقول: خلاف ذلك في كتابه، قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، لم يخلق جميع خلقه إلاَّ لعبادته، ولذلك ركب فيهم العقول وأرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتب؛ {لِيَجْزِيَ الَّذِيْنَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِيْنَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31]، وقال: {لِلَّذِيْنَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس: 26] في الكرامة.
__________
(1) غير موجودة في: (أ).(1/141)
والوجه الثاني من كتاب الله: قوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلِيْهِمْ فِيْهَا}، يقول: فرضنا عليهم: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] إلى آخر الآية.
والوجه الثالث، قوله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلِيْكَ الْكِتَابَ}[الزمر: 2]، يعني القرآن.
والوجه الرابع: (قوله)(1) {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12]، يقول: أوجب على نفسه الرحمة، أنهم إذا تابوا رحمهم، وأوجب لهم على نفسه الرحمة، فالكتاب والمكتوب عليه في هذا الموضع واحد، وهو الله رب العالمين، وكذلك قوله: {تَعْلَمُ مَا فِيْ نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِيْ نَفْسِكَ} [البقرة: 115]، يقول عيسى عليه السلام: تعلم ما غاب عني من أمري، {وَلا أَعْلَمُ مَا فِيْ نَفْسِكَ}، يقول: لا أعلم ما غاب عني من أمرك، وكذلك قوله: {أَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}(2)، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهُهُ}[القصص:88]، وقوله: {تَجْرِيْ بِأَعْيُنِنَا}[القمر: 14]، و(قوله): {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، {وَالأَرْضُ جَمِيْعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِيْنِهِ} [الزمر: 67]، فكل هذه الآيات وما أشبهها من الآيات فإنما يريد عز وجل ذاته، لا أن ثمَّ نفساً ووجهاً ويداً وعيناً ويميناً سواه، فاعلم ذلك، و(تفكر)(3) في جميعه يَبِنْ لك الصواب، وينفى عنك الشك والإرتياب بحول الله وقوته.
تم الكتاب. والحمد لله وحده وصلواته على رسوله سيدنا محمد وآله وسلامه(4).
__________
(1) غير موجودة في: (أ).
(2) غير موجودة في: (أ).
(3) في (ب): وتفسر، ومعناها بالعامية: تمَهَّل وتأنَّ.
(4) عبارة (أ): تم الكتاب المجموع، والحمد لله وحده أولاً وآخراً، وصلواته على رسوله سيدنا محمد وآله وسلامه، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وبتمام ذكره تم الكتاب المجموع لما اتفق فيه من كتب للإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين كرم الله وجهه. وحسبنا الله ونعم الوكيل.(1/142)
كتاب الجملة
m
[مقدمة]
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه، وهو الذي لا يمكن الأوهام أن تناله، ولا العقول أن تَخْتَالَه(2)، ولا الألسن أن تمتحنه، ولا الأَسْمَاعَ أن تشتَمِلَه، ولا الأبصارَ أن تتمثله.
إن اللّه تبارك وتعالى اصطفى الإسلام ديناً، فلم يؤامر(3) فيه مَلَكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، ولم يجعله بأماني الناس، ولم يتبع الحق أهواءهم، ولكنه اصطفى من الملائكة رسلاً إلى من انتخبه من خلقه، فبعثهم أنبياء يدعون الناس إلى خلع الأنداد، وترك عبادة الأصنام، وأن يُخلَع كل معبود من دون الله، تبارك وتعالى. ثم كلف جميع خلقه ـ الذين حَمَّلهم الدين، وكلفهم إياه، وأقام عليهم حجته ـ أن يعلموا أنَّه أحد، صمد، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 ـ 4]، وأنه لم يزل ولا يزول، ولا يتغير من حال إلىحال، ولا تقع عليه الأوهام، ولا تقدره العقول، ولا تحيط به الأقطار، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأنه العالم الذي لا يجهل، والقادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب، والدائم الذي لا يَبِيْد، والحي الذي لا يموت، والحليم الذي لا يعجل.
وأنه الأول الذي لا شيء قبله (ولا قديم غيره)(4)، والآخر الذي لا شيء بعده.
__________
(2) أي لا تلحقه الأوهام ولا تتخيله العقول.
(3) المؤامرة: المشاورة.
(4) سقط من (ج).(1/143)
وأنه القديم وما سواه مُحْدَث، وأنه الغني وما سواه إليه فقير، وأنه العزيز وما سواه ذليل، وأنه الذي لا إله إلاَّ هو الرحمن الرحيم، وأنه العدل في قضائه، الجواد في عطائه، الناظر لخلقه، الرحيم بعباده، الذي {لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}[النساء:40]، وأنه خلق خلقه لعبادته، من غير حاجة منه إليهم، ولا منفعة تصل إليه من عبادتهم، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً، ولكنه تفضل عليهم بخلقه إياهم، وأنه طَوَّقهم(1) وقَوَّاهم، ثم أمرهم ونهاهم، فلم يكلف أحداً فوق طاقته، ولم يعذبه على غير معصيته، ولم يمنع أحداً ما ينال به طاعته، وينتهي به عن معصيته، وينجو به من عذابه، ويصير به إلى ثوابه (ولم يفعل بعباده إلا ما فيه رشدهم وصلاح أمرهم، ولم يعب شيئاً من قضائه)(2)، ولم يقض شيئاً عابه، ولم يَلُم أحداً على شيء من تدبيره (وتقديره)(3)، ولم يعذب أحداً على أمر خَلَقَه وأَرادَه، ولم يُرِد ما يسخطه، ولم يغضب مما كَوَّنه، ولم يكره شيئاً أراده، ولم يرض الكفر لعباده، ولم يحب الفساد، ولا الجهر بالسوء من القول، ولم يأمر بما لا يريده، ولم ينه عما يريده.
وأنه أمر بالطاعة، ونهى عن المعصية، وأن كل ما أمر به منسوب إليه، وكل ما نهى عنه فغير مضاف إليه ولا منسوب، وأنه لم يَأْخذ أَحداً على الْغِرَّة(4)، ولم يعذب إلاَّ بعد قيام الحجة، فأثاب على طاعته، وعذب على معصيته، فلن تزر وازرة وزر أخرى في حكمه، وأنه {لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم: 39 ـ 41].
__________
(1) في هامش ط: أي جعل لهم طاقة.
(2) سقط من ط.
(3) في هامش ط: غير موجودة في ب.
(4) أي لم يعذب أحداً على غفلة بدون بيان.(1/144)
وأن أكرم الخلق عند الله أتقاهم لله، وأشرفهم عندالله أكثرهم طاعة له، وأنه لا ذل ولا صُغْر في الجنة، ولا عزَّ ولا شرف في النار، وأنه صادق الوعد والوعيد في أخباره كلها.
وأنه لا تبديل لكلمات الله، ولا خلف لوعد الله، وأنه لا يبدل القول لديه، وأنه {لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[ آل عمران: 9]، وأن قوله أصوب الأقاويل، وأن حديثه أصدق الأحاديث.
وأنه أنزل على محمد كتاباً مهيمناً، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء: 195]، وأنه {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: 42]، أحل فيه الحلال، وحرم الحرام، وشرع فيه الشرائع، ثم قال: {لَيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42].
فدعى محمد الداعي إلى معرفة الله، والإقرار بربوبيته، وإلى خلع كل معبود من دون الله، وإلى معرفة نبوته، والإقرار بذلك ظاهراً وباطناً، حتى يشهدوا بألسنتهم وقلوبهم أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإلى الإقرار بما جاء به من عندالله، والأداء لجميع ما افترض اللّه عليهم(1)، والإيمان بملائكته ورسله وكتبه، والإيمان بالبعث والموت والحساب والجنة والنار، وأن يقيموا الصلوات الخمس في مواقيتها، بحسن طهورها وإسباغ وضوئها، وتكبيرها وخشوعها وقراءتها وركوعها وسجودها، والْغُسْل من الجنابة بماء طاهر وضوء وغسل إذا أمكن الماء، وإلا فالتيمم بالصعيد الطَيّب، وَصِيَام شهر رمضان، باجتناب الرفث(2) والفسوق(3) والعصيان، وَغَضِّ البصر، والحَجِّ إلى بيت اللّه الحرام، من استطاع إليه سبيلاً، والسبيل: الزاد والراحلة للأصحاء البالغين.
__________
(1) في (أ): والضمان لأداء جميع ما فرض اللّه عليهم.
(2) في هامش ط: الرفث: هو قول الفحش، والمراد: الجماع.
(3) في هامش ط: الفسوق: هو الفجور والخروج عن جادة الحق.(1/145)