ثُمَّ قال عز وجل: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَونَ وَمَلأَهُ زِيْنَةً وَأَمْوَالاً فِيْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيْلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88]، يقول: آتيتهم يا رب هذه الأموال (والأولاد)(1) والأبدان والخيل والرجال، يعني أنَّه خلقهم لا أنَّه ملكهم(2) {رَبَّنَا لِيَضِلُّوا}، يقول: لئلا يضلوا عن سبيلك، فضلوا وصرفوا نعمتك الَّتي أمرتهم أن يصرفوها في طاعتك لا في(3) معصيتك، فعندما فعلوا ذلك {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا}، يقول: إنهم لا يؤمنون اختياراً من أنفسهم المعصية والكفر. ثُمَّ قال: {إِنْ هِي إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِيْ مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف: 155]، يقول: إن هي إلاَّ محنتك، {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ}، يقول توقع(4) اسم الضلال على من يستحقه بعد هذه الفتنة، قامت: (بها) مقام (بعد)(5). [وقال:] {وَإِنَّ رَبَكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلَّنَاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد:6]، يقول بعد ظلمهم إذا تابوا(6)، وقال: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِيْ جُذُوعِ النَّخْلِ}[طه: 71]، يقول: على جذوع النخل، قامت (في) مقام (على)، [وقال:] {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ}، يقول على القوم: {الَّذِيْنَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}[الأنبياء: 77]، وقال: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيْهَا وَالْعِيْرَ الَّتي أَقْبَلْنَا فِيْهَا} [يوسف:
__________
(1) ليس في: (ب).
(2) يريد أنَّه خلق لهم هذه الأشياء فملكوها لا أنَّه ملكهم هو إياها في قوله: {آتيت فرعون...}.
(3) كذا في (ب) أيضاً، والصواب: حذف حرف النفي.
(4) في (ط): فوقع، وسقط منها: يقول.
(5) فيكون معناها تضل بعدها من يستحق الضلال بسببها.
(6) فأقام (على) مقام: (بعد)، لأن حروف الصفات تتناوب.(1/136)


82]، يقول أهل القرية وأهل العير. وقال: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175]، يقول: يخوف الناس بأوليائه. وقال: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ}، يقول: يحبون أندادهم كحب المؤمنين لله {وَالَّذِيْنَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً للهِ}[البقرة: 165]، [وقال:] {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ} [النساء: 77]، يقول: يخشون الناس كخشية المؤمنين لله. وقال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَومَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة: 17]، والعرش فهو الملك، كما قال: {اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيْمِ} [النمل: 26]، قال الشاعر:
تداركتما(1) عَبْساً وقد ثل عرشها…وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل
يقول: إنَّه تهدم عزها وملكها، ومعنى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ..}، يقول: يتقلدون أمر الله ونهيه في خلقه، كما قال: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ}[العنكبوت: 13]، يقول: يتقلدون أمورهم، وقال:
حُمِّلت أمراً جليلاً فاضطلعت به…وقمت فيه بحق الله يا عمرا
يقول: قلدت أمراً جليلاً. {فَوْقَهُمْ}، يقول: منهم، قامت (فوق) مقام (من) {ثَمَانِيَةٌ}، يمكن أن تكون(2) ثمانية أصناف أو ثمانية آلاف، أو ثمانية أنفس، ويقول: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}[القلم: 42]، يقول: عن شدة، كما قال:
قامت بنا الحرب على ساق فشمرنا على
__________
(1) في (ط): تداركتها.
(2) من هنا يبدأ ثانية اعتمادنا على النسخة (أ) مع النسخة (ب)، وينتهي السقط الذي وقع في النسخة (أ) ويستمر ترقيمنا معتمداً على لوحات النسخة: (أ). هذا والنسخة (أ) لدى المحقق، هي التي رمزنا لها: (أ) فهما واحد.(1/137)


ويقول إبليس اللعين: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِيْ} [الحجر: 39]، يقول: دعوتني بهذا الاسم بعد أن استوجبته، و{مَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيْدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، يقول: يعذبكم، الإغواء في هذا الموضع: العذاب كما قال: {فَسَوفَ يَلْقَونَ غَيّاً} [مريم: 59].
[خَطايا الأَنبِياء]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
اعلم أن الأنبياء صلوات الله عليهم لم يعص أحد منهم متعمداً يعلم أن لله معصية فيتعمدها، وذلك لا يجوز على الأنبياء؛ لأنهم أصفياؤه ورسله؛ اختارهم على علم سبق منه فيهم أنَّه إذا بعثهم إلى خلقة سيبلغون الرسالة، ويؤدون الأمانة، ولا يعصونه في شيء من الأشياء، فعلى ذلك اصطفاهم واختارهم. قال في قصة آدم عليه السلام: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115]، وقال في قصة نوح عندما دعا ربه: {رَبِّ إِنَّ ابْنِيْ مِنْ أَهْلِي}، فقال له ربه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}، يقول: ليس من أهل طاعتك، {إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْئَلَنَّ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، فقال نوح: {رَبِّ إِنِي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِيْ بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِيْ وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِيْنَ} [هود: 45 ـ 47]، فتاب عليه السلام من ذلك.(1/138)


وكذلك يوسف صلى الله عليه عندما أخذ (يوسف)(1) أخاه في دين الملك، فقال رب العالمين في ذلك: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِيْ دِيْنِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76]، وقال موسى عندما قتل القبطي: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِيْ فَاغْفِرْ لِيْ} [القصص: 16]، و{هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15]، وقال: {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِيْنَ} [الشعراء: 20]، يقول: من الجاهلين لعاقبة أمري. وداود عليه السلام عندما نظر إلى امرأة (أوريا) فأعجبته، ثُمَّ كان يذكرها في نفسه دائماً ويقول: لو دريت أن هذه المرأة على هذه الصفة لتزوجتها قبل أن يتزوجها (أوريا)، فلما أن بعث الله إليه الملكين اللذين تخاصما إليه وحكم داود بينهما بالحق علم أنَّه مخطئ في ذلك، فتاب إلى ربه فتاب الله عليه. وكذلك سليمان، ويونس، وأيوب وجميع الأنبياء، صلوات الله عليهم، ما كانت خطاياهم وعصيانهم إلاَّ على وجه الزلل والنسيان، فاعلم ذلك، ولا تنسب إليهم ما لا يليق بهم؛ لأنهم بررة أتقياء أصفياء صلوات الله عليهم.
[الكِتَاب]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: تفسير(الكتاب) في القرآن على وجوه شتى:
__________
(1) ليس في: (ب).(1/139)


فوجه منها: علم، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمْرِهِ إِلاَّ فِيْ كِتَابٍ} [فاطر: 11]، يقول: في علم الله، ويقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيْبَةٍ فِيْ الأَرْضِ وَلا فِيْ أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِيْ كِتَابٍ مِنْ قَبْلُ أَنْ نَبْرَأَهَا}[الحديد: 22]، يقول: في علم الله من قبل أن يخلق الأنفس، ويقول: {كَتَبَ اللهُ}، يقول: علم الله {لأَغْلَبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، وقال: {وَلا حَبَّةٍ فِيْ ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِيْ كِتَابٍ مُبِيْنٍ}[الأنعام: 59]، يقول: في علم مبين، وقال: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِيْ الزُّبُرِ}[القمر: 52]، يقول: في علم الله، وقال: {هَذَا كَتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29]، يعني: علمه عز وجل. وقال: {لَبَرَزَ الَّذِيْنَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]، يقول: علم. فالكتاب هاهنا كتاب علم؛ لأن الله (تبارك)(1) وتعالى قد علم أنَّه سيختارون البراز إلى مضاجعهم، فإذا برزوا اختياراً من أنفسهم للبراز قَتلوا أو قُتِلوا، فالبراز فعل من البارز، والقتل فعل من القاتل المعتدي، فعلم الله محيط (بالقاتل والبارز)(2)، وليس العلم الذي جبرهما على البراز والقتل، والبراز والقتل فعل من البارز والقاتل، وعلم الله محيط بهما كما قال عز وجل: {وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمْثْوَاكُمْ} [محمد: 19]، التقلب من الخلق، وعلم الله محيط بهم، ولا يقدر أحد أن يخرج من علم الله، وليس علم الله الذي يُدخلهم في الطاعة ويخرجهم من المعصية،(ولا علمه الذي يدخلهم في المعصية ويخرجهم من الطاعة)(3)، ولكن (قوماً)(4) اختاروا الطاعة على المعصية فاستوجبوا من
__________
(1) غير موجودةٌ في: (ب).
(2) في (أ):بالبارز والقاتل.
(3) غير موجودة في: (أ).
(4) في (أ) و(ب): قوم. وكذا في (ب).(1/140)

28 / 209
ع
En
A+
A-