مَصِيْراً}[النساء: 97]. وقال سبحانه: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِيْ سَبِيْلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيْراً وَسَعَةً}[النساء: 100]، يقول: من هاجر من درا الظالمين، ولحق بدار الحق والمحقين، رزقه الله من الرزق الواسع ما يرغم أنف من ألجأه إلى الخروج من وطنه، وذلك مايروى عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أنَّه كان يقول: (يروى أن الله عز وجل يجعل أعوان الظالمين يوم القيامة في سرادق من نار، ويجعل لهم أظافير(1) من حديد يحكون بها أبدانهم حتَّى تبدو أفئدتهم فتحرق(2)، فيقولون: يا ربنا ألم نكن نعبدك؟ قال: بلى، ولكنكم كنتم أعواناً للظالمين)، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( ملعون ملعون من كثَّر سواد ظالم ))(3).
وفي معادة الظالمين ما يقول الله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيْ إِبْرَاهِيْمَ وَالَّذِيْنَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ}[الممتحنة: 4]، فباين إبراهيم والذين معه آباءهم وأبناءهم وإخوانهم الذين بادؤوا(4) الله بالعداوة، وكذلك يجب على كل مؤمن أن يقتدي بفعلهم.
[المحْكم والمتشَابه]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
__________
(1) جمع الجمع لأظفار، الَّتي مفردها ظفر.
(2) في (ب): فتحترق.
(3) من معاني السواد: المال الكثير، والعدد الكثير، والريف والقرى المحيطة بالمدينة.
(4) في (ب): باينوا.(1/131)
إعلم أن القرآن محكم ومتشابه، وتنزيل وتأويل، وناسخ ومنسوخ، وخاص وعام، وحلال وحرام، وأمثال وعبر وأخبار وقصص، وظاهر وباطن، وكل ما ذكرنا يصدق بعضه بعضاً، فأوله كآخره، وظاهره كباطنه؛ ليس فيه تناقض، وذلك أنَّه كتاب عزيز، جاء من رب عزيز على يدي رسول كريم، وتصديق ذلك في كتاب الله حيث يقول: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيْزٌ لا يَأْتِيْهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيْلٌ مِنْ حَكِيْمٍ حَمِيْدٍ} [فصلت: 42]، ويقول: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيْدٌ فِيْ لَوْحٍٍ مَحْفُوظٍ}[البروج: 21]، ويقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلُو كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيْهِ اخْتِلافاً كَثِيْراً}[النساء: 82].
فإذا فهم الرجل ذلك أخذ حينئذٍ بمحكم القرآن، وأقر بمتشابهه أنَّه من الله، كما قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِيْ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِيْنَ فِيْ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}[آل عمران: 7]، ثُمَّ بين عز وجل لأي معنى تركوا المحكم وأخذوا بالمتشابه؛ قال: لابتغاء الفتنة والهلكة، فلذلك جعل المحكم إماماً للمتشابه، كما جعله حيث يقول: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}.(1/132)
فالمحكم كما قال الله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}[الإخلاص: 4]، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}[الشورى: 11]، و {وَلا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}[الأنعام: 103]، ونحو ذلك، والمتشابه مثل قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}[القيامة: 22]، معناها بَيَّن عند أهل العلم، وذلك أن تفسيره عندهم: أن الوجوه يومئذٍ تكون نضرة مشرقة ناعمة، إلى ثواب ربها منتظرة، كما تقول: لا أنظر إلاَّ إلى الله وإلى محمد، ومحمد غائب، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة، معناه: لا يبشرهم برحمته، ولا ينيلهم ما أنال أهل الجنة من الثواب، فعندما لا ينظر الله إليهم يوم القيامة يراهم(1).
ثُمَّ قال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}، يقول: ثواب ربه {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}[الكهف: 110] وقال: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[المطففين:15](2).
وأما الله عز وجل فلا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك أن ما وقع عليه البصر فليس بخالق ولا قادر.
وكذلك يأخذ الإنسان في العدل والتوحيد بهذه الآيات: {إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}[الأعراف: 28]، {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}[الزمر: 7]، وإذا مر عليه شيء من القرآن يقع عنده أنَّه مخالف لهذه الآية فليعلم أن تفسيره مثل تفسير المحكم، إلاَّ أنَّه جهل تفسيره، مثل قول الله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ فِيْ الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِيْ الأرْضِ} [الإسراء: 4]، أي: تختارون اسم الفساد، كما قال: {وَقَضِيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ}[الحجر: 66](3)، يقول: أعلمناه.
__________
(1) يريد أن النظر هنا: ليس هو الرؤية بالعين، ولذلك نفاه عن نفسه سبحانه مع أنَّه يراهم فكذلك ما أثبته في قوله: {إلى ربها ناظرة}.
(2) في الأصل ذكرت الآية خطأ، هكذا: (ثم إنهم).
(3) في (ط): الحجرات، وهو غلط.(1/133)
والوجه الثاني في القضاء: أمر، كما قال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}[الإسراء: 23]، يقول: أمر ربك ألا تعبدوا إلاَّ إياه.
والوجه الثالث: قضاء خلق، وذلك قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِيْ يَوْمَيْنِ}[فصلت: 12]، يقول: خلقهن في يومين، فأما أن يكون يقضي رب العالمين على خلقه بمعصية ثُمَّ يعذبهم عليها فهذا محال، باطل من المقال. ثُمَّ قال: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيْرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}[المائدة: 60]، فتفسيرها على التقديم والتأخير.
يقول: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ أُوْلَئِكَ شَرُّ مَكَاناً}، وجعل منهم القردة والخنازير خارج من الكلام(1).
__________
(1) هذه إحدى شبه المجبرة على ضلالتهم يزعمون أن الله سبحانه جعل (عبدة الطاغوت) بمعنى خلقهم وعبادتهم للطاغوت فرد عليهم الإمام شبهتهم الواهية بجعله الآية على التقديم والتأخير، وجملة قوله: {وجعل منهم القردةَ والخنازير} معترضة بين المتعاطفين، وقد ألطف في استخراج المعنى الصَّحيح رحمه الله.(1/134)
ثُمَّ قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ، لَهُمْ فِيْ الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِيْ الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيْمٌ}، بيانها في أولها حيث يقول: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ(1) يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيْتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِيْنَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهَمْ} [المائدة:41]، بعد ما كان من عصيانهم، ومن مخالفتهم للحق وأهله.
__________
(1) في (ط) هكذا: (ويحرفون الكلم عن مواضعه)، وهو غلط.(1/135)