مَا اتَّقُوا وَآمَنُوا} [المائدة: 93]، يقول: ليس عليهم جناح فيما شربوا قبل التحريم إذا تركوه من اليوم وأقلعوا منه، فكانت هذه الآية إلى آخرها معذرة للماضين، وحجة على الباقين، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( حقيقُ على الله من ملأ جوفه في هذه الدنيا خمراً أن يملأه الله يوم القيامة جمراً إلاَّ من تاب وآمن ))، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( جمعت الشرور في بيت، ثُمَّ كان مفتاحه الخمر )).
وأما قوله سبحانه: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}[النساء: 43]، يعني سكر النوم، وذلك أن قوماً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة المغرب(1) ثُمَّ يجلسون ينتظرون العتمة(2)، فإذا جاءت العتمة قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يصلي بهم فيقومون وراءه وليس هم يدرون ما يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممَّا بهم من الغلبة والسكر، والنوم(3) فنهاهم الله عن الصلاة وهم في ذلك حتَّى يعلموا ما يقولون؛ لأن الله عز وجل لم يحل لأحد من خلقه خمراً قط.
[الزَّكاة]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
وأما الزكاة فواجبة على الإنسان في ماله؛ إذا بلغ من الطعام خمسة أوسق في سنته وجب عليه أن يخرج عُشْر ما وقع من الطعام، والوَسَق: ستون صاعاً، والستون صاعاً: عشرون مكوكاً(4)، ثُمَّ ما زاد على ذلك فبحساب ذلك، كانت زيادتها قليلاً أو كثيراً.
__________
(1) في (ب): صلاة العشاء، والصواب ما أثبتناه.
(2) هي: الثلث الأول من الليل، والمراد هنا صلاة العشاء، لوقوعها فيها.
(3) في (ط): خمر النوم.
(4) وبالمكيال المصري المعاصر يساوي الصاع سدس كيلة، ومن ثَّمَّ فالوسق يساوي عشر كيلات، أما المكوك فهو صاع ونصف تقريباً. راجع محمد ضياء الدين الريس(الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية) ص328، 329. ط القاهرة. الطبعة الثانية: سنة 1961م.(1/126)


وأما الماشية ففي أربعين شاةٍ شاة، وفي ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة(1)، وفي خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين ابنة مخاض(2)، وفي ست وثلاثين ابنة لبون(3)، فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حِقًّة(4)، وإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة شاة، وإذا كثرت البقر ففي كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة(5).
وفي الذهب والفضة كائناً ما كان من نقد أو حلي أو دين أو صداق، فإذا حال على وزن عشرين مثقالاً ذهباً ففيه ربع عُشْره، وما زاد على العشرين فبحساب ذلك.
وفي الفضة إذا بلغت مائتي درهم قفلة(6) وحال عليها الحول وجب فيها ربع عُشْرها.
وأما العطب(7)، والقصب(8)، والثمار مالم يكن يكال فإذا باع صاحبها في سنته بمائتي درهم فقلة أخرج عُشْرها.
__________
(1) التبيع هو العجل المدرك، والمراد هنا ما أوفى سنتين ودخل في الثالثة.
(2) المخاض: الحامل من الإبل، والمراد هنا ما أوفت سنة ودخلت في الثانية.
(3) أي ذات لبن، والمراد هنا ما أوفت سنتين ودخلت الثالثة.
(4) الحقة: الناقة: هي الَّتي جاءت وقت ضرابها، أي دارت السنة وتمت مدة حملها، والمراد هنا الناقة الَّتي أوفت ثلاث سنين ودخلت الرابعة.
(5) أي كبيرة، والمراد هنا ما أوفت ثلاث سنين. راجع باب الزكاة في: (كتاب منهج السالك في مذهب الإمام مالك)، للشيخ محمد الغزالي. ط القاهرة مطبعة الصدق الخيرية، بدون تاريخ، و(كتاب دليل السالك لمذهب الإمام مالك) للشيخ محمد محمد سعد، ط القاهرة: الطبعة الثانية، سنة: 1923.
(6) أي جملة ومرة واحدة. راجع أساس البلاعة للزمخشري.
(7) العطب هو: القطن.
(8) في (ب) والقضب.(1/127)


والزكاة كلها إلى إمام المسلمين من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يحكم بكتاب الله رب العالمين، ويسير في رعيته بسيرة جده خاتم النبيين، لقول الله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرْهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا}[التوبة: 103]، ثُمَّ أمر خلقه أن يدفعوا إليه، فقال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا}[الأنعام: 141]، ولا تدفع إلى غير المحق، فإذا عدمت الرعية هذا الإمام، ولم يوجد على ظاهر الدنيا في شرقها وغربها وجب عليهم أن يقسموها بين خمسة أصناف من المسلمين: بين الفقراء، والمساكين، وابن السبيل، والغارم، وفي الرقاب، ويتركوا الثلاثة: العاملين عليها، وهم الذين يجمعون(1) الزكاة من الرعية لإمام المسلمين، والمؤلفة قلوبهم، وهم الذين لا يلحقون إمام المسلمين إلاَّ بشيء يعطيهم، ولا غناء للإمام عنهم يتألفهم بهذه الزكاة، وفي سبيل الله، فالسبيل هو: القتل والقتال وصلاح الإسلام والمسلمين.
فأما الفقير: فهو رجل ليس له مال، وله عولة(2)، ومنزل وخادم، فيجب له أن يأخذ من هذه الزكاة ما يقوم به ويعوله.
والمسكين: فهو الذي يدور ويطلب وليس معه شيء.
وابن السبيل: مار الطريق، يحتاج إلى زاد وكسوة أو كراء.
__________
(1) في (ب): يقبضون.
(2) قوت العيال.(1/128)


وفي الرقاب: رجل يكون له عبد فيكاتبه عبده على أن يدفع إليه شيئاً معروفاً يتراضيان عليه، العبد والمولى، فيجب على صاحب الزكاة أن يعين هذا العبد على فك رقبته، وذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِيْنَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ ممَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيْهِمْ خَيْراً} [النور: 33]، ثُمَّ قال لأصحاب الزكاة: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِيْ آتَاكُمْ} [النور: 33]، فأمرهم أن يعينوا المكاتبين من أموال الله الَّتي آتاهم، فلا يجوز لأحد من المسلمين أن يدفع هذه الزكاة إلى هؤلاء المسمين(1) من الفقير والمسكين وابن السبيل والغارم والمكاتب، إلاَّ أن يكونوا عارفين بالله عز وجل وبحدوده، وأعدائه وأوليائه، فيوالون أو لياءه، ويعادون أعداءه، ويُحِلُّون حلاله، ويحرمون حرامه، ولا يتعدون حداً من حدوده؛ وجب لهم حينئذ الزكاة، وإذا لم يكونوا على هذه الصفة لم يجب لهم من الزكاة شيء وإن كانوا معدمين فقراء، لأن الله عز وجل جعل هذه الزكاة لعباده المسلمين وأوليائه الصالحين لأن يبتغوا(2) فيما رزقهم الله، ويستغنوا(3) بفضل الله الذي أفضل عليهم، ويثيب أهل الأموال فيما أخرجوا من زكوات أموالهم؛ لأن يستعين كل بنعمة الله وفضله.
__________
(1) في (ط): المسلمين.
(2) في (ب): يتَّسعوا.
(3) في (ب): ويستعينوا.(1/129)


فإذا كان الفقير على غيرالإستواء ثُمَّ دفع صاحب الزكاة، إليه شيئاً من المال فقد قواه على فسقه وفجوره وطغيانه، وكان له شريكاً في عصيانه، كدأب الذين يعينون الظالمين، ويقيمون دولتهم بزرعهم وتجارتهم، وينصرونهم على قتل المسلمين وهتك حريمهم وأخذ أموالهم، ولولا التجار والزارعون ما قامت للظالمين دولة، ولا ثبتت لهم راية، ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إن الله بعثني بالرحمة واللُّحمة(1)، وجعل رزقي تحت ظلال رمحي، ولم يجعلني حراثاً ولا تاجراً، ألا إن شرار عباد الله الحراثون والتجار إلاَّ من أخذ الحق وأعطى الحق ))؛ لأن الحراثين يحرثون والظالمين يلعبون، ويحصدون وينامون، ويجوعون ويشبعون، ويسعون في صلاحهم وهم يسعون في هلاك الرعية، فهم لهم خدم لا يؤجرون، وأعوان لا يشكرون، فراعنة جبارون، وأهل خنا فاسقون، إن استُرْحِمُوا لم يرحموا، وإن استنصفوا لم ينصفوا، لا يذكرون المعاد، ولا يصلحون البلاد، ولا يرحمون العباد، معتكفون(2) على اللهو والطنابير(3)، وضرب المعازف والمزامير، قد اتخذوا دين الله دغلاً(4)، وعباده خولاً، وماله دولاً، بما يقويهم التجار والحراثون، ثُمَّ هم يقولون: إنهم مستضعفون، كأن لم يسمعوا قول الله تبارك وتعالى فيهم وفيمن اعتل بمثل علتهم؛ إذ يحكي عنهم قولهم: {إِنَّ الَّذِيْنَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالَوا فِيْمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِيْنَ فِيْ الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فُتُهَاجِرُوا فِيْهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ
__________
(1) في (ب): والملحمة.
(2) في (ب):معتكفين.
(3) جمع طنبور، آلة موسيقية طويلة العنق ذات أو تار نحاسية.
(4) من معانيه الريبة، والحقد، والغيلة، والخيانة..ألخ..الخ.(1/130)

26 / 209
ع
En
A+
A-