فوجه منها: قول الله تبارك وتعالى: {يَا بَنِيْ آدَمَ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لُكُمْ عَدُوٌ مُبِيْنٌ}، يقول: لا تطيعوه {وَأَنِ اعْبُدُونِيْ}[يس: 60]، يقول: أطيعوني، وليس على وجه الأرض أحد يصلي للشيطان ولا يصوم له، بل كلهم يجمعون على لعنه(1)؛ غير أنهم يعملون عمله، ويسعون في مرضاته، ويساعدونه على إرادته، فجعل الله عز وجل فعلهم ذلك للشيطان طاعة وعبادة، وذلك أن كل مطاع عنده عز وجل معبود. وكذلك قال رب العالمين في قصة إبراهيم الخليل صلى الله عليه حيث يقول لأبيه: {لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}[مريم: 44]، وقال فرعون اللعين: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}[المؤمنون: 47]، يقول: مطيعون. وقال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِيْنَ لَيُوحُونَ إِلَىْ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام: 121]، فكل من أطاع عدواً من أعداء الله وعاضده أو كاتفه فقد أشرك بعبادته(2) غيره.
__________
(1) في (ب): لعنته.
(2) في (ب): بعبادة ربه غيره.(1/116)


وقال عز وجل: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُوْنِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98]، يعني: العابد والمعبود من الجن والإنس، لا أنَّه يعني أنَّه يعبد المعبودات من الجماد، وذلك أن الجماد هو كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِيْ عَنْكَ شَيْئاً} [مريم: 42]، فضرر عبادة الصنم لا يعدو صاحبه، وهو مأخوذ بفعله مُعاقَب على عمله، وضرر عبادة شياطين الإنس والجن على عابده وعلى الإسلام والمسلمين، وذلك أن الصنم جماد، والجماد لا يفتق ولا يرتق، ولا يأمر ولا ينهى، وشيطان الإنس يأمر من تبعه وأطاعه بقتل المسلمين، وهتك حرمتهم(1)، وأخذ أموالهم، ويأمرهم بالفسق والفجور، والقول على الله بالزور والبهتان وبطاعة إبليس اللعين.
[الإرادة]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه:
الإرادة من الله عز وجل في خلقه على معنيين:
__________
(1) في (ب): حريمهم.(1/117)


إرادة حتم وجبر وقسر: وهي إرادة الله عز وجل في خلق السماوات والأرض وما بينهما من الخلق، من الملائكة والجن والإنس والطير والدواب وغير ذلك، إرادة حتم وجبر، فجاء خَلْقُه كما أراد، لم يمتنع منه شيء، ولم يغلبه شيء من الأشياء كما قال عز وجل: {مَا تَرَى فِيْ خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}[الملك: 3]، وقال: {ثُمُّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِيْنِ} [فصلت: 11]، يقول: كوَّنهما فكانتا من غير مخاطبة و لا أمر، وذلك أن الله عز وجل لم يخاطب أحداً من خلقه إلاَّ ذوي العقول من الملائكة والجن والإنس، وسائر خلقه حيوان لا عقول لها، وجماد لا روح فيه، وإنَّما خاطب الله عز وجل أهل العقول، وأمرهم ونهاهم، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وبين لهم الحلال والحرام، فمن أطاع وائتمر بأمره وانتهى عن نهيه استوجب من الله الحفظ والحياطة في دنياه الفانية، والثواب الجزيل في آخرته الباقية، ومن عصاه منهم عذبه في الدنيا والآخرة، والذي لا عقل له من خلقه لا يجب له ثواب ولا عليه عقاب، قال عز وجل: {إِنَّمَا قُوْلُنَا لِشِيْءٍ إِذَا أَرْدْنَاهُ أَنْ نَقُوْلَ لَهُ كُنْ فَيَكُونَ} [النحل: 40]، يقول: إذا كوَّنَّاه كان بلا كلفة ولا اضطراب، ولا تحيل ولا إضمار ولا تفكر، ولا تتقدم إرادته فلعله ولا فعله إرادته، بل إرادته للشيء إيجاده وكونه، وإذا أراده فقد كونه، وإذا كونه فقد أراده، لا وقت(1) بين إرادته للشيء وكونه.
__________
(1) في (ب): لا فرق.(1/118)


والإرادة الثانية من الله عز وجل: إرادة تخيير وتحذير، معها تمكين وتفويض، أراد من خلقه الإيمان على هذا الوجه؛ لأنَّه لو أراد منهم الإيمان على نحو ما أراد خلقهم؛ ما إذاً قَدَر واحد من خلقه على أن يخرج من الإيمان إلى الكفر، كما لا يقدرون أن يتحولوا من صورهم إلى صور غيرهم من الخلق، ولكن ركب فيهم العقول، وأرسل إليهم الرسول، وهداهم النجدين، ومكنهم من العملين، ثُمَّ قال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيْلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3]، وقال: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت: 17]، فدل على أنَّه هداهم، واستحبوا هم العمى على الهدى، اختياراً من أنفسهم واستحباباً، ثُمَّ قال: {اعْمَلُوا مَاشِئْتُمْ} [فصلت: 40]، لولا أن لهم مشيئة لم يقل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}، ثُمَّ قال: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً}[الكهف: 77]، لولا أن موسى صلى الله عليه علم أن للعالم فيما يريد مشيئة ما قال: {لَوْ شِئْتَ}، ثُمَّ قال: {ذَلِكَ بَأَنَّهُمْ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ}[الكهف: 77]، قال:استحبواهم لأنفسهم، ثُمَّ قال: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}[الحشر:9]، وقال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقال: {تُرِيْدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}[الأنفال:67]، {يُرِيْدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ}[التوبة: 32]، {يُرِيْدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ}[النساء:91].(1/119)


ثُمَّ قال سبحانه: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لُوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ}[التوبة: 42](1)، فرد عليهم رب العالمين: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[التوبة: 42]، فبين عز وجل أنهم قادرون على الخروج مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا القرآن من هذا النحو كثير.
ثُمَّ قال الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِيْ مَنْ أَحْبَبْتَ}، لولا أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقدر على أن يحب لم يقل له ربه: {مَنْ أَحْبَبْتَ}، ثُمَّ قال: {وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ}[القصص:56]، وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}[السجدة: 13]، وقال: {وَلُوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِيْ الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيْعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِيْنَ}[يونس: 99]، وقال: {وَلَو شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}[هود: 118]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}[الأنعام: 35]، وقال: {فَلُو شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِيْنَ}[الأنعام: 149]، يعني عز وجل في هذه الآيات كلها وما أشبهها أنَّه سبحانه لو شاء أن يجبرهم على الإيمان والهدى مشيئة حتم وجبر ويقسرهم عليه لأمكنه ذلك، وما قدر واحد من خلقه أن يخرج ممَّا حتم الله عليه وجبره وقسره؛ إذ كان محمد يعجز عن قسرهم على الإيمان، فقال له ربه: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران: 02، والرعد: 240، والنحل: 82]، فقد أبلغت وأديت ونصحت، وعرفتهم بما ينفعهم {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يُكُونُوا مُؤْمِنِيْنَ}، فتريد أن تقتل نفسك: {إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيْثِ أَسَفاً}[الكهف: 6]، يقول: حزناً عليهم وشفقة، فذرهم: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِيْ ضَيْقٍ ممَّا يَمْكُرُونَ}[النحل: 127]،
__________
(1) والآية في الأصل مذكورة خطأ: (يحلفون..).(1/120)

24 / 209
ع
En
A+
A-