فمن هذه الجهة ترك الظالمين ولم يأخذهم؛ لأن الرعية في ظلمهم وتظالمهم فيما بينهم أصناف: فقوم يقولون على اللّه بالجبر والتشبيه، وينفون عنه العدل والتوحيد، وينسبون إليه عزَّ وجل أفعال العباد، ويقولون: إن هذا الظلم الذي نزل بهم بقضاء من الله(1) وقدر، ولو وأن الله قضى عليهم بهذا الظلم الذي نزل بهم من هؤلاء الظالمين ما إذاً قدر الظالم أن يظلمهم، غير أن هذا الظلم مقدر عليهم عند اللّه على يدي هذا الظالم، فإذا كانت معرفتهم هذه المعرفة، وكان معبودهم الذي يزعمون أنهم يعبدونه هذا فعله بهم؛ فمتى يصل هؤلاء إلى معرفة الخالق، ومتى يدعونه ويستعينون به على ظالمهم؟ إنما هم يدعون هذا الذي يزعمون أنَّه قضى عليهم بهذا الظلم وقدره، ولهذا يصلون، وله يصومون ويحجون، وبه في جميع ما ينزل بهم من الظلم والجور والمصائب في المال والولد والبدن يستعينون(2) به على دفع هذه المضار والبلوى التي نزلت بهم. فهم يعبدون صورة مصورة، وعلى هذا النحو أسلمهم ربهم، وتركهم من التوفيق والسداد(3)، وخذلهم ولم ينصرهم على ظالمهم. وكيف ينصرهم على ظالمهم وهو المقدر لهذا الظلم عليهم الذي نزل بهم؟ فهو الذي يدعونه بزعمهم، أما إنهم لو أنصفوا عقولهم، وعرفوا اللّه عزَّ وجل حق معرفته، ونفوا عنه ظلم عباده، كما نفاه عزَّ وجل عن نفسه، ثم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ودعوا ربهم حينئذٍ على ظالمهم؛ إذاً لاستجاب لهم دعوتهم، وكشف ما بهم من الظلم والجور، وذلك قوله عزَّ وجل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}[غافر: 60].
وقال: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم: 47]، {كَذَلِكَ حَقّاً عَلَينَا نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}[يونس: 103] (4).
****
__________
(1) سقط من ب.
(2) في ب: يستغيثون.
(3) في ب: والتسديد.
(4) إلى هنا انتهى وبعده في ط، ب: قال يحيى بن الحسين الهدى.. الخ، ولايعلم هل هي تمام الكتاب أم هي أبحاث مستقلة، وتلحق به هنا.(1/111)


[مفاهيم شتى]
[الهُدَى(1)]
قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: الهدى من الله عز وجل هديان: هدى مبتدأ، وهدى مكافأة.
فأما الهدى المبتدأ: فقد هدى الله به البَرّ والفاجر، وهو العقل والرسول والكتاب.
فمن أنصف عقله وصدق رسوله وآمن بكتابه وحلل حلاله وحرم حرامه؛ استوجب من الله الزيادة.
والهدى الثاني(2): جزاء على عمله، ومكافأة على فعله، كما قال عز وجل: {وَالَّذِيْنَ اهْتَدُوا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}[محمد:17]، وقال: {وَيَزِيْدُ اللهُ الَّذِيْنَ اهْتَدَوا هُدىً}[مريم:76].
ومن كابر عقله وكذب رسوله ورد كتابه؛ استوجب من الله الخذلان، وتركه من التوفيق والتسديد، وأضله وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة، وذلك قوله تبارك وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ}، عني الهدى الثاني، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ}، يقول: ومن يرد أن يوقع اسم الضلال عليه، بعد أن استوجب بفعله القبيح {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرِجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِيْ السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125]، فقد بين عز وجل في آخر الآية أنَّه لم يضله، ولم يضيق صدره إلاَّ بعد عصيانه وكفره وضلاله، لأنَّه يقول: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرَّجْسَ عَلَى الَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ}، ولم يقل إنَّه يجعل الرِّجس على الذين آمنوا.
__________
(1) هذه المفاهيم اختصت بها النسختان (أ) و(ب) و(ط)، وقد جاءت فيها في آخر كتاب العدل والتوحيد متصلة، ولا علاقة لها به، كما يظهر، لذلك أفردناها بعنوان وحدها فليعلم.
(2) في (ب): الزيادة بالهدى الثاني.(1/112)


ثُمَّ قال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}[الجاثية: 23]، (كما اتخذ إلهه هواه أوقع عليه اسم الضلال، وسماه ودعاه بعد أن اتخذ إلهه هواه وختم على سمعه)(1)، وتركه من التوفيق والتسديد وخذله، ولم يؤيده ولم يسدده كما أيد وسدد الذي عبده، عز وجل.
ثُمَّ قال: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ}[النحل:93، فاطر:8].
ثُمَّ قال: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِيْنَ} [البقرة: 26] وقال: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكَافِرِيْنَ}[غافر:74]، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}(2)، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ}[غافر: 35].
[الضّلال]
قال يحيى بن الحسين، صلوات الله عليه:
الضلال في كتاب الله عز وجل على وجوه:
فوجه منها: قول الله تبارك وتعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِيْنَ}[فاتحة الكتاب: 5]، يقول: إنهم ضلوا عن سواء السبيل، وهم النصارى.
والوجه الثاني: قوله سبحانه: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى}[الضحى: 7]، يقول عن شرائع النبوة فهداك الله.
وقال موسى: {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِيْنَ}[الشعراء: 20]، يقول: من الجاهلين بعاقبة فعلي. وقال: أولاد يعقوب: {إِنَّ أَبَانَا لَفِيْ ضَلالٍ مُبِيْنٌ}[يوسف: 8]، يقولون: جاهل عندما يؤثر يوسف علينا، ونحن أنفع له من يوسف صلى الله عليه.
والوجه الثالث: قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا}[البقرة: 282]، أن تنسى إحداهما الشهادة فتذكر إحداهما الأخرى.
والوجه الرابع، قوله: {أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ}[محمد: 1، 8]، يقول:أبطل أعمالهم.
__________
(1) سقط من (ب).
(2) غافر: 24، والآية مذكورة في الأصل خطأ: (مسرف هكذا) كذا في (ط) ولعلها: مسرف كذاب كما في (ب) أيضاً.(1/113)


والوجه الخامس: قوله سبحانه، في قصة فرعون والسامري، حيث يقول: {وَأَضَلَّ فِرْعَونُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى}[طه:79]، يقول: أغواهم وأرداهم ولم يرشدهم.
والوجه السادس: قوله: سبحانه: {وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، وقوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ}[النحل: 93، فاطر:8]، و{يُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِيْنَ}[إبراهيم: 27]، و{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ}[غافر: 34](1)، ونحو هذا في القرآن كثير، يعني في جميع ذلك: أنَّه يوقع عليه اسم الضلال، ويدعوه به بعد العصيان والطغيان، لا أنَّه يغويهم عن الصراط المستقيم، كما أغوى وأضل فرعون قومه، وإن اشتبه اللفظ فمعناه متباين مفترق عند أهل العلم، إذ الله عز وجل رحيم بعباده، ناظر لخلقه، وفرعون لَعين ملعون مُضل غوي، وهو عز وجل قد عذب فرعون على فعله وضلاله، وقبح سوء فعله بنفسه وقومه، وكيف يغوي خلقه ويضلهم ولا يرشدهم ثُمَّ يعذبهم على فعله؟ إذاً لكان لهم ظالماً، وعليهم متعدياً، وهو مع ذلك يعيب على من فعل مثل هذا الفعل، إذ يقول عز وجل: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيْئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيْئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيْناً}[النساء: 112]، وبعث إليهم الرسول، وأنزل عليهم الكتاب، ثُمَّ قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِيْ السِّلْمِ كَافَّةً}[البقرة: 208]، فأمرهم أن يدخلوا كلهم في الإسلام والإيمان.
__________
(1) والآية مذكورة في الأصل خطأ، هكذا: (مسرف كذاب).(1/114)


فلو كان كما يقول الجاهلون إنَّه هدى قوماً وأضل قوماً ولم يهدهم؛ لم يكن لقوله: {أُدْخُلُوا فِيْ السِّلِمِ كَافَّةً} معنى، إذ كان عز وجل بزعمهم أدخل قوماً في الإسلام، وحال بين قوم وبين الدخول في الإسلام؟ فما معنى قوله لقوم داخلين في الإسلام: ادخلوا وهم داخلون، كما لا نقول لقائم: قم، وكما لا نقول لجالس: إجلس، ويقول لقوم حال بينهم وبين الدخول في الإسلام ادخلوا، فكيف يقدرون على ذلك، وهو قد حال بينهم وبين الدخول في الإسلام، كما لم نقل لِمُقْعَد: قم، ولا لأعمى: أبصِر.
وهو عز وجل قد فرض الجهاد على جميع الناس، فقال: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً}[التوبة: 41]، ثُمَّ قال لمن أعمى بصره ولم يعطه من القوة ما أعطى غيره: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [النور: 61، الفتح: 71]، فعذره في تخلفه عن الجهاد إذ لم يقدر على ذلك.
وقال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة: 262]، فلو كان عز وجل فعل لهم ما يقول المبطلون، لكان من عصى وكفر وظلم وقتل أنبياءه وأولياءه وقال عليه بالزور والبهتان معذوراً عنده سبحانه، ساعياً في قضائه وقدره، ولم يكن يوجد على الأرض عاص، إذ كان المطيع يسعى بقضاء الله وقدره، وكان العاصي كذلك يسعى ببعض قضائه وقدره؛ إذ يزعمون أنَّه خلق قوماً للجنة وخلق قوماً للنار، كذب العادلون(1) بالله وضلوا ضلالاً بعيداً وخسروا خسراً مبيناً.
[العبادة]
قال يحيى بن الحسين، صلوات الله عليه: تفسير العبادة على ثلاثة وجوه(2):
__________
(1) أي المشركون به.
(2) في (ب): أوجه(1/115)

23 / 209
ع
En
A+
A-