ثم جاء قوم من بعد أولئك فوجدوا كلاماً مرسوماً في كتب ودفاتر، فأخذوا بذلك على غير تمييز ولا برهان، بل كابروا عقولهم، ونسبوا فعلهم هذا إلى الأخيار منهم؛ من ولد الرسول عليه وعليهم السلام، كما نسبت الحشوية ما روت من أباطيلها وزور أقاويلها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، ليثبت لهم باطلهم على من اتخذوه مأكلة لهم، وجعلوهم خدماً وخولاً، كما قال اللّه عزَّ وجل في أشباههم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيهِمْ مِيثَاقُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ}[الأعراف: 168].
وكذلك هؤلاء الذين رفضوا زيد بن علي وتركوه، ثم لم يرضوا بما أتوا من الكبائر؛ حتى نسبوا ذلك إلى المصطفين من آل الرسول. فلما كان فعلهم على ما ذكرنا، سماهم حينئذ زيد روافض ورفع يديه فقال: اللهم اجعل لعنتك ولعنة آبائي وأجدادي ولعنتي على هؤلاء الذين رفضوني، وخرجوا من بيعتي، كما رفض أهل حرورى(1) علي ابن أبي طالب عليه السلام حتى حاربوه.
فهذا كان خبر من رفض زيد بن علي وخرج من بيعته.
وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، أنَّه قال لعلي بن أبي طالب: (( يا علي، إنَّه سيخرج قوم في آخر الزمان، لهم نَبْر(2) يعرفون به، يقال لهم: الرافضة، فإن أدركتهم فاقتلهم، فإنهم مشركون، فهم لعمري شر الخلق والخليقة )).
__________
(1) في هامش ط: المراد الخوارج الذين رفضوا التحكيم وقاتلوا علي بن أبي طالب.
(2) كذا في النسخ. والمشهور على الألسنة: نبز، بالزاي.(1/106)


وأما الوصية فكل من قال بإمامة أمير المؤمنين ووصيته فهو يقول بالوصية، على أن اللّه عزَّ وجل أوصى بخلقه على لسان النبي إلى علي بن أبي طالب والحسن والحسين، وإلى الأخيار من ذرية الحسن والحسين، أولهم علي بن الحسين وآخرهم المهدي، ثم الأئمة فيما بينهما.
وذلك أن تثبيت الإمامة عند أهل الحق في هؤلاء الأئمة من اللّه عزَّ وجل على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله، فمن ثَبَّت اللّه في الإمامة، وأختاره واصطفاه، وبيَّن فيه صفات الإمام؛ فهو إمام عندهم مستوجب للإمامة، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ يقول: (( من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة اللّه في أرضه، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله )). قال: من ذريتي. فولد الحسن والحسين من ذرية النبي صلى اللّه عليه وآله. ثم قال: (( عليكم بأهل بيتي، فإنهم لن يخرجوكم من باب هدى، ولن يدخلوكم في باب ردى )). وقال: (( مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى ))، وقال: (( النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون )) يعني في جميع ذلك: الصالحين من ولده، وقال صلى اللّه عليه وعلى أهل بيته: (( من سمع داعيتنا(1) أهل البيت فلم ينصره لم يقبل اللّه له توبة حتى تلفحه جهنم )). ثم قال: (( من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية )).
__________
(1) في ب: واعيتنا.(1/107)


والله عزَّ وجل قد جعل الأمر والنهي في خيار آل محمد عليه وعلى آله السلام، وزواه (1) عن ظالميهم وظالمي غيرهم، ومكن أهل الحق منهم وأجازه لهم، وذلك قوله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}[الحج: 41]، ثم قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}[النور: 55]، وقال سبحانه لرسله: {وَأَوْحَى إِلَيهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم: 14 ـ 15]، وقوله لإبراهيم صلى الله عليه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124]. وعلى هذا النحو قال تبارك وتعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ}[آل عمران: 26]، يعني الأنبياء ومن تبعهم من الأئمة الصادقين، كقوله: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}[التوبة: 119]، وكقول إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}[إبراهيم: 36]، ثم قال: {وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}[آل عمران: 26]، فقد نزع الملك من الفراعنة والجبابرة، وإنما الملك هو الأمر والنهي، لا المال والسعة والجِدَة، كما قال عزَّ وجل عندما قالوا: {أنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ
__________
(1) في ط: ووراه. وفي هامشه: هكذا في الأصل، والمراد منعه.(1/108)


بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ}[البقرة: 247]، فقد بين عزَّ وجل في هذه الآية، أن الملك هو الأمر والنهي، لا سعة المال، ثم قال: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ}[آل عمران: 26] فقد أعز الأنبياء ومن تبعهم من الأئمة الصادقين وأوليائهم الصالحين، وذلك قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: 8]، والمؤمن لا يملك من متاع الدنيا شيئاً، فسماه اللّه عزيزاً؛ إذ فعله ذلك يوصله إلى دار العزِّ أبد الأبد، ثم قال: {وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ}[آل عمران: 26]، فقد أذل الفراعنة ومن تبعهم من الظالمين؛ لأنهم معتدون غير محقين. فكل من كان في يده أمر ونهي وكان فعله مخالفاً للكتاب والسنة فهو فرعون من الفراعنة، وكل عالم متمرد فهو إبليس من الأبالسة، وكل من عصى الرحمن من سائر الناس فهو شيطان من الشياطين، وذلك قوله: {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ}[الأنعام: 112]، ثم قال: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}[الناس: 6].
والظالم وإن اتسع في هذه الدنيا من مال غيره، وأكثر من مظالم الناس، ووقع عند الجاهل أنَّه عزيز، فهو عند اللّه عزَّ وجل وعند أوليائه ذليل؛ لأنَّ فعله ذلك يورده إلى دار الذل أبد الأبد، كما قال اللّه عزَّ وجل: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادِ}[آل عمران: 197].(1/109)


وقال النبي صلى الله عليه وآله في الأمراء الظالمين: (( طعمة قليلة وندامة طويلة(1) ))). وفعل هؤلاء الظالمين وأمرهم وسلطنتهم؛ إنما تقوم بأعوانهم الذين يتبعونهم، ويعينونهم على ظلمهم، وإذا تفرق الأعوان منهم وأسلموهم لم تقم لهم دولة، ولا تثبت لهم راية، فمتى كثرت جماعتهم تقووا بهم على باطلهم، واستضعفوا المستضعفين من خلق الله، وأمهل لهم ربهم وتركهم، ولم يَحُل بينهم وبين من يظلمونهم؛ إذ كُلٌّ ظالم، القوي والمستضعف، وذلك قوله عزَّ وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأنعام: 129]، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً}[مريم: 83]، يقول: خليناهم عليهم، كما قال: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيْدٍ}[الإسراء: 50]، وكما قال النبي صلى اللّه عليه وعلى آله: (( لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطنَّ اللّه عليكم شراركم فيسومونكم سوء العذاب، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم، حتى إذا بلغ الكتاب أجله كان اللّه المستنصر(2) لنفسه، فيقول: ما منعكم إذ رأيتموني أُعْصَى أن لا تغضبوا لي(3) ))).
__________
(1) في ط: كثيرة.
(2) في ب: المنتصر.
(3) في ب: فيَّ.(1/110)

22 / 209
ع
En
A+
A-