وفيه أنزل اللّه على رسوله بغدير خم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالاَتِهِ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[المائدة: 67]، فوقف صلى الله عليه وآله وسلم وقطع سيره، ولم يستجز أن يتقدم خطوة حتى ينفذ ما عزم عليه في علي، فنزل تحت الدوحة مكانه، وجمع الناس، ثم قال: (( أيها الناس... ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. فقال: اللهم اشهد، ثم قال: اللهم اشهد، فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله )). والناس كلهم مجتمعون يسمعون كلام رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رافع بيد علي حتى أبصر بياض آباطهما وهو ينادي بهذا القول.
وفيه يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (( عليٌّ مني بمنزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبي بعدي ))، ويقول: (( عليٌّ مع الحق، والحق معه ))، ويقول (( أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها ))، وقال: (( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما ))، وقال: (( أنت أخي يا علي في الدنيا والآخرة ))، وقال: (( عليٌّ أقضى الخلق وأعلمهم )).
[إمامة الحسنين عليهما السلام](1/96)
ثم يجب عليه أن يعلم أن الحسن والحسين ابنا رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم وحبيباه، وأنهما إماما عدل، واجبة طاعتهما، مفترضة ولايتهما، وفيهما وفي جدهما وأبيهما وأمهما يقول(1) اللّه تبارك وتعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}[الإنسان: 5] إلى قوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيْلاً}[الإنسان: 29] وفيهما ما يقول(2)رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم، إلاَّ ابْنَي فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما )). فهما ابناه وولداه بفرض اللّه وحكمه، وفي ذلك ما يقول اللّه سبحانه في إبراهيم الخليل صلى اللّه عليه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيْسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ}[الأنعام: 84]، فذكر أن عيسى من ذرية إبراهيم، كما موسى وهارون من ذريته، وإنما جعله ولده وذريته بولادة مريم، وكان سواء عنده في معنى الولادة والقرابة ولادة الابن وولادة البنت؛ إذ قد أجرى عيسى وموسى مجرى واحداً من إبراهيم صلى اللّه عليه. وفيهما وفي أبيهما وأمهما ما يقول اللّه تبارك وتعالى لرسوله صلى اللّه عليه وآله؛ إذ أمره بالمباهلة(3) للنصارى؛ فقال له: {قُلْ تَعَالُوا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ}[آل عمران: 61]، فحضر صلى اللّه عليه وآله بعلي وفاطمة والحسن والحسين صلى اللّه عليهم أجمعين.
[إمامة أهل البيت عليهم السلام، وصفات الإمام]
__________
(1) في أ: ما يقول.
(2) في (أ، ب) : يقول.
(3) المباهلة: هي الملاعنة.(1/97)
ثم يجب عليه أن يعلم أن الإمامة لا تجوز إلاَّ في ولد الحسن والحسين؛ بتفضيل اللّه لهما، وجعله ذلك فيهما، وفي ذريتهما، حيث يقول تبارك وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}[البقرة: 124].
فكانت النبوة والإمامة والوصية والملك في ولد إبراهيم صلى اللّه عليه، إلى أن بعث اللّه محمداً صلى اللّه عليه وعلى آله فأفضت النبوة إليه، وختم اللّه الأنبياء به، وجعله خاتم النبيين وسيد المرسلين، وقال: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ}[هود: 73]، وقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}[الزخرف: 28]، وقال: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَينَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً}[النساء: 54]، وقال موسى صلى اللّه عليه لقومه: {يَا قَومِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيْكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ العَالَمِينَ}[المائدة: 20]، وقال: {وَلَقَدْ آتَينَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العَالَمِينَ}[الجاثية: 16]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيْمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيْعٌ عَلِيْمٌ}[آل عمران: 34 ـ 35]، فكانت النبوة في إبراهيم، ثم أفضت إلى إسماعيل، ثم إلى إسحاق، ثم إلى ابنه يعقوب، ثم إلى ابنه يوسف، ثم في بني إسرائيل ـ وهو يعقوب ـ الأول فالأول، حتى كان آخرهم عيسى صلى اللّه عليهم أجمعين، ثم حول اللّه النبوة إلى(1/98)
محمد خاتم النبيين، فقال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}[الفتح: 29]، ثم قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[الحشر: 70]. وقال النبي صلى الله عليه وآله: (( إني تارك فيكم الثقلين(1) ما إن تمسكتم بهما(2) لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض )) (3) وقال اللّه سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33]، فبين الأمر سبحانه فيهم وأوضحه، {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}. ومحمد من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وكذلك ذريته.
ثم قال سبحانه: {ثُمَّ أَورَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَا}، فورثة الكتاب: محمد، وعلي، والحسن، والحسين، ومن أولدوه من الأخيار. ثم قال في ولدهم: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}[فاطر: 32]، ففيهم إذ كانوا بشراً ما في الناس.
وقال: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود: 113]، كما قال في ولد إبراهيم وإسحاق صلى اللّه عليهما: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}[الصافات: 113].
__________
(1) سقط من (ط): الثقلين.
(2) في ط: به.
(3) في هامش (ط): وهذه الرواية مقصورة على المتشيعين لأهل البيت، أما جمهور السنة فيروون الحديث هكذا: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وسنتي).تمت. وليس كذلك، فقد رواها كثير من أئمة الحديث، على رأسهم مسلم والترمذي ، بلفظ: وعترتي. بألفاظ مختلفة.(1/99)
وكان فيما بَيَّن اللّه عزَّ وجل لخليله إبراهيم صلى اللّه عليه؛ إذ قال إبراهيم: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}؛ فقال له ربه: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، ثم قال: {أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود: 18]، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ}[المائدة: 44] و{الظَّالِمُونَ}[المائدة: 45] و{الفَاسِقُونَ}[المائدة: 47].
وأن الإمام من بعد(1) الحسن والحسين من ذريتهما من سار بسيرتهما، وكان مثلهما، واحتذى بحذوهما، فكان ورعاً تقياً، صحيحاً نقياً، وفي أمر اللّه سبحانه مجاهداً، وفي حطام الدنيا زاهداً، وكان فَهِماً لما يحتاج إليه، عالماً بتفسير ما يرد عليه، شجاعاً كَمِياً(2) بذولاً سخياً، رؤوفاً بالرعية، متعطفاً محسناً(3) حليماً، مساوياً لهم بنفسه، مشاوراً لهم في أمره، غير مستأثر عليهم، ولا حاكم بغير حكم اللّه فيهم، قائماً شاهراً لنفسه، رافعاً لرايته، مجتهداً، مفرقاً للدعاة في البلاد، غير مقصر في تأليف العباد، مخيفاً للظالمين، مؤمِّناً للمؤمنين، لا يأمن الفاسقين ولا يأمنونه، بل يطلبهم ويطلبونه، قد باينهم وباينوه، وناصبهم وناصبوه، فهم له خائفون، وعلى إهلاكه جاهدون، يبغيهم الغوائل، ويدعو إلى جهادهم القبائل، متشرداً عنهم، خائفاً منهم، لا يردعه عن أمور الله ولا يمنعه عن الاجتهاد عليهم كثرةُ الإرجاف، شمري(4)
__________
(1) في هامش ط: من هنا حتى قوله (ثمانية أصناف أو ثمانية آلاف، أو ثمانية أنفس).. قبل عنوان (خطايا الأنبياء) بقليل. صفحات سقطت من النسخة أ، واعتمدنا فيها على النسخة ب فقط، وأعطيناها ترقيمها، ويقع هذا الموضع من النسخة ب باللوحة 142. وكذلك سقطت من (أ) عندي، واعتمدت: (ب).
(2) في هامش ط: الكمي، هو: الشجاع المتحصن بالدروع والأدوات الساترة لجسمه والحامية له من سهام الأعداء.
(3) في ب: متحنناً.
(4) في هامش ط: هو المجد في عمله المجرب، الماضي في الأمور، ومثله المشمر.(1/100)