ومن تلك النماذج ما اعترضه بعضهم على فكر الإمام ـ بعد ثنائه البالغ على فكر الإمام وإنصافه ـ قول الإمام بـ (( حصر الإمامة في البطنين )) منطلقاً في ذلك ـ على ما أرى ـ من عصرنا، متناسياً رؤية عصر الإمام وقبله لهذه القضية بالذات ومفهومه عن دعوى أحقية الخلافة بداية من سقيفة بني ساعدة وما أسفرت عنه من أخذ القرشيين للحكم بحجة القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وبعيداً عن دعوى كل للخلافة باعتبار (( المنصب )) وحجة كل على دعواه لا سيما وأن جذورها ـ كما ذكرنا ـ قديمة، فإن الذي له إلمام بعصر الإمام وما قبله يجد لمثل هذه الدعوى مبرراً واضحاً وحضوراً واسعاً في ذهن الحكام والمحكومين آنذاك، وإذا عرفنا نزو الأمويين على الخلافة وتحويلها إلى ملك عضوض يرثه الابن عن أبيه، وكذلك العباسيون مدلين بأنسابهم معطين شرعية لذلك النوع من الحكم القائم على القرشية ومؤصلين لنظرتهم في (( الوراثة والغلبة )) مع ما هم عليه من عسف وجور في الأغلب، فهل يا ترى يصعب علينا فهم دعوى (( العلويين )) من أبناء فاطمة الزهراء ذوي القرابة القريبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسباً وسيرة لحصر الإمامة فيهم؟ أم أن ذلك وفي مثل ذلك العصر هو الشيء الطبيعي الذي لا نكر فيه ولا غرابة؟ مع ما هم عليه من عدل وسلوك مرضي في الأغلب، خصوصاً وأن للنسب في ذهن العربي حقاً مرعياً، فما بالك بالنسب الهاشمي محتد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهكذا لا بد من أن نستحضر ـ ونحن نقيم الشخصية ـ في أذهاننا واقعها وموقفها وطبيعة ظروفها ومفاهيم عصرها لكي نقترب أكثر من الحقيقة والصواب، ولكي نبتعد عن التحامل والأحكام المرتجلة المتعجلة ونستلهم من ماضينا ما ينبغي لنا في حاضرنا ومستقبلنا، فمن لا ماضي له لا حاضر له بل ولا مستقبل له.(1/6)


إن دراسة الشخصية لا سيما العباقرة والمصلحون ليست بالمهمة السهلة وخصوصاً إذا اختلفت معها في فكرها ومع مراعاة الاعتدال في الطرح والحكم، وحتى تكون الدراسة متكاملة والصورة واضحة أكثر ينبغي أن تتضمن الدراسة أربعة ابعاد حين تكون الشخصية من الحكام وذوي السلطة: البعد الأول: بيئة الشخصية ونشأته في أسرته، ومحيطه الثقافي والفكري، بما في ذلك فضائله الذاتية ومقومات شخصيته. الثاني: فكره: ملامحه ومعالمه ومميزاته. الثالث: سياسته وحكمه وفكره السياسي وسلوكه على ضوء رؤيته السياسية والإقتصادية. الرابع: أصحابه ومريدوه. هذه الأبعاد تجعل دارس الشخصية قريباً من فهم واقعها لما لها من أثر في شخصيته ولما له من أثر عليها، ولأن كلاً منها يمثل جزءاً من شخصيته وانعكاساً لها.
وقد كنت رأيت أثناء تحقيقي لهذا المجموع من كتب ورسائل الإمام ـ حين قرأت الإمام من خلالها وغيرها من فكره الكلامي وغيره مع دراسة سيرته ـ أن أتناول شخصيته من تلك الأبعاد، وكنت قد تصورت خطة الدراسة ومنهج البحث معتزماً أن أرفق ذلك بالمجموع لينشر معه، ولكن لما يستدعيه ذلك من التطويل والتأخير رأيت أن الأولى نشر ذلك المجموع مفرداً مجرداً عن الدراسة تلك؛ لأن ذلك أقرب إلى غرضي الأساسي من تحقيق ونشر ذلك التراث العظيم، مرجئاً نشر الدراسة لحين استكمالها إن شاء الله مفردة مستقلة إن وفقني الله لذلك، تخفيفاً من حجم الكتاب وتسهيلاً للطلبة والباحثين الراغبين في اقتنائه.
وقد اقتصرت في مقدمة هذا المجموع على تعريف مجمل بالمؤلف وبموضوعات المجموع، وصورة مجملة عن سياسة الإمام وفكره، وعملي في الكتاب؛ لأن ذلك هو الأقرب إلى غرضي والأجدر بالباحث، ومن الله تعالى أستمد العون والتوفيق إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
نظرة عامة في المجموع(1/7)


في دراستنا لهذا المجموع نخرج بصورة مجملة تناولتها كتب ورسائل الإمام تتمحور أساساً حول أربعة أصول، هي أصول الدين أو أصول العقيدة عند الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام:
الأصل الأول: التوحيد بما فيه من نظرة تنزيهية لذات الله تعالى وصفاته تقرب من التجريد بعيدة عن التجسيم والتشبيه، وخلاصتها: (( أن الله واحد أحد ليس له شبه ولا نظير ولا مثل ولا عديل ولا كفؤ في وجه من الوجوه ولا معنى من المعاني، وأنه ليس بذي صورة ولا حد ولا غاية ولا نهاية، ولا بذي أجزاء ولا أعضاء، ولا بعضه غير بعض، ولا يقع عليه الطول والعرض، ولا يوصف بالهبوط ولا الصعود والتحرك والسكون والزوال والانتقال والتغير من حال إلى حال، ولا يحويه مكان ولا يمر عليه وقت ولا زمان، وأنه قبل كل مكان وحين وأوان ووقت وزمان، وأنه خلق المكان من غير حاجة إليه، وإنما خلقه لحاجة الخلق إليه، وأنه في السماء إله وفي الأرض إله وفي كل مكان إله خالق مدبر من غير أن يحويه شيء ولا يحيط به، ومن غير أن يكون حملة العرش يحملونه تعالى عن ذلك، وأنهم يحملون العرش وأما الله سبحانه وبحمده فإنه أعز وأجل من أن يحمله أحد من الخلق، والخلق أعجز وأضعف من أن ينالوا ذلك منه أو يقدروا عليه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ومن غير أن يكون كما يستوي الإنسان على سريره، ولكنه استوى على العرش؛ واستواؤه: ملكه وقهره بلا ند يشاوره ولا ضد ينافره ولا معين يؤازره، وهو كما قال الملك في كتابه بلا كيف ولا تمثيل ولا تحديد، وأنه شيء لا كالأشياء ولا شيء يعدله سبحانه وبحمده، وأنه ليس بجسم ولا جسد، ولا فيه صفة من صفات الأجساد ونعتها وهيئتها؛ من تأليفها واتصالها واجتماعها وافتراقها وكينونة بعضها على بعض على المجامعة والمفارقة والمباشرة والدخول والخروج والقرب في المسافة والبعد في العزلة والغيبة وطول السفر، وأنه لا يحتجب بشيء من خلقه ولا يستتر به ولا يبدو له فيدركه، وأن الفكر لا(1/8)


تبلغه وأن العقول لا تقدره والأوهام لا تناله والضمائر لا تمثله والأبصار لا تدركه، وأن العيون لا تراه لا في الدنيا ولا في الآخرة، ... وأن من شبهه بشيء من خلقه كائناً ذلك الشيء ما كان أو وصفه بتحديد أو زعم أن بيننا وبينه حجباً ساترة وأنه لو رفعت تلك الحجب لأدركناه ورأيناه، فقد قال قولاً عظيماً، وأن من وصفه بالكيفية والماهية، فقد جهل واجترا.
وأن من زعم أنه لا يعبد شيئاً فهو كما أخبر عن نفسه لا يعبد شيئاً، ومن قال: هو خالق الشيء ولا يقال له شيء فقد جار وحار عن طريق القصد والهدى، وأن الله علام الغيوب لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ولا في الدنيا. وأنه القادر الذي لا يعجزه شيء من الأشياء لم يزل عالماً قادراً ولا يزال قادراً عالماً، ليس لقدرته غاية ولا لعلمه نهاية، وليس علمه وقدرته سواه، هو القادر لا بقدرة سواه والعالم لا بعلم سواه، وهو السميع البصير، ليس سمعه غيره ولا بصره سواه ولا السمع غير البصر ولا البصر غير السمع، ولا يوصف بسمع كأسماع المخلوقين ولا ببصر كأبصارهم تعالى الله عن ذلك، ولكنه سميع لا تخفى عليه الأصوات، ولا الكلام ولا اللغات، بصير لا تخفى عليه الأشخاص ولا الصور ولا الهيئات، ولا مكان شيء من الأشياء وموضعه ولا يغيب عليه شيء من أمره وحاله، لم يزل سميعاً بصيراً ولا يزال كذلك تبارك وتعالى.، وأنه له قدرة وعلماً وسمعاً وبصراً، ليس ذلك على إضافة شيء ثان له تبارك وتعالى، ولا كما ظن المشبهون أن له وجهاً وصورة وتخطيطاً، وأنها نفس في جسده حاش لله من ذلك، ولكنه على تحقيق إثباته جل جلاله.(1/9)


وأن من زعم أن علمه محدث وقدرته محدثة؛ كان غير عالم ثم علم وغير قادر ثم قدر فقد قال قولاً عظيماً. ومن قال: إن علمه وقدرته وسمعه وبصره صفات له، وأنه لم يزل بها موصوفاً قبل أن يخلق الخلق وقبل أن يكون أحد يصفه بها وقبل أن يصف هو بها نفسه وتلك الصفات زعم لا هي الله ولا غير الله فقد قال منكراً من القول وزوراً... ومن قال: ليس لله علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر فقد جهل واجترا وقال مقالة الزور والفِراء. ومن قال: لا يقال: لله علم ولا يقال: ليس له علم فقد ضيع من الدين واللغة حظاً نافعاً، ومن قال: علم الله هو الله وقدرة الله هي الله وسمع الله هو الله وبصر الله هو الله فقد قال في ذلك بالصواب. ومن قال: علم الله محدث أحدثه الله وفعل فعله وهو حركة والحركة زوال من مكان إلى مكان فقد افترى على الله الكذب. ومن قال: لا يعلم الشيء حتى يقدره فإذا قدره علمه، وكذلك من قال: محال أن يعلم الشيء قبل أن يكون، ... وكذلك من زعم أن لله خنصراً أو بنصراً وأنه أخرج خنصره للجبل لما تجلى له، ومن زعم أن له وجهاً حاراً لو كشفه لأحرق ما أدركه بصره، وأن له كفاً محدودة وأصابع معدودة وأنامل باردة، وساقاً وقدماً ولساناً وفماً، وكذلك من زعم أن له حداً ومقداراً وصورة من الصور وهيئة من الهيئات، وكذلك من زعم أن الله تبدو له البدوات؛ فإنه يريد أن يفعل الشيء ثم لا يفعله لنية تبدو له فيه، وأنه يخبر أنه سيفعل كذا وكذا ثم يبدو له فيه فلا يفعله، فكل هؤلاء قد قال الكذب، وقال ما لا برهان له به ولا سلطان، فتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً(1) ))).
__________
(1) كتاب الديانة.(1/10)

2 / 209
ع
En
A+
A-