وقال اللّه عزَّ وجل في تحريم تزويج اليهوديات والنصرانيات: {وَلاَ تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}، كما قال(1): {وَلاَ تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] أجمع المسلمون أنَّه لا يحل لامرأة مؤمنة أن تزوج(2)رجلاً يهودياً ولا نصرانياً، فالحكم في الرجال والنساء واحد؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا يتوارث(3) أهل ملتين مختلفتين )) بإجماع الأمة(4) أن امرأة يهودية إذا ماتت وخلفت زوجها هذا المسلم أو مات زوجها أنَّه ليس بينهما موارثة، فافهم ذلك إن شاء اللّه تعالى.
باب ذكر القيام بالقسط
وذكر اللّه تبارك وتعالى القيام بالقسط في كتابه؛ فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَينِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].
وقال: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقْرَبِينَ} إلى قوله: {خَبِيراً} [النساء: 135].
وقال عزَّ وجل: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَآنُ قَومٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} [المائدة: 2]، فأمر تبارك وتعالى بإصلاح ذات البين، والقيام بالقسط في عباده وبلاده، والتعاون على البر والتقوى، وترك التعاون على الإثم والعدوان، وهذا لا يكون كما أمر اللّه به إلاَّ بمجاهدة الباغين، ومنعهم من الظلم والعدوان.
__________
(1) سقط من (ج): كما قال.
(2) في (ج): تتزوج.
(3) في (ج): لا توارث بين.
(4) كذا في النسخ، ولعلها: فإجماع الأمة.(1/86)
وقال سبحانه: {مَآ أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف: 51].
وقال سبحانه لإبراهيم عليه السلام: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، فأخبر تبارك وتعالى أنَّه لا يتخذ الظالمين عضدا، وكذلك لا يتخذهم أمراء ولا خلفاء، ولا قضاة ولا حكاماً، وأخبر أن عهده لا ينال الظالمين، وكذلك لا يجوز لهؤلاء أن يكونوا أئمة المسلمين، وخلفاء لرب العالمين، وشهادتهم غير مقبولة، وقولهم غير مصدق.
وقال عزَّ وجل: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَينَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، فلا يستحق الخلافة إلاَّ من حكم بالحق، فإذا عدل عن حكم اللّه فليس بخليفة.
وقال اللّه سبحانه: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28].
وقال تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَينِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَثِيراً} [الأحزاب: 67ـ68].
وقال سبحانه: {إتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحُ بْنُ مَرْيَمَ} الآية [التوبة: 31].
وقال سبحانه: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} [البقرة: 166ـ167].(1/87)
وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيهِ يَقُولُ يَا لَيتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيلَتَى لَيتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرَ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان: 27ـ29]، فنهى سبحانه عن طاعة الآثم والكافر والمتبع لهواه، وأخبر بسوء حال من اطاع المخلوق في معصية الخالق، فكيف بمن لم يدع لهم(1) طاعة في معصية اللّه إلاَّ أتاها، ولا معصية لله في طاعتهم إلاَّ ارتكبها، ولا حرمة في هواهم(2) إلاَّ انتهكها؟ فأسخط اللّه وأرضاهم، ورضي بثوابهم عوضاً من ثواب الله، وبولايتهم بدلاً من ولاية الله، أولئك هم الخاسرون.
وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} إلى قوله: {وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].
وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَآءَتْ فَأَصْلِحُوا بَينَهُمَا} الآية [الحجرات: 9]، فأمر بقتال الفئة الباغية نصاً في كتابه، وأمر أن يكونوا مع الصادقين، ولا يكونوا مع الفاسقين الفاجرين.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِالقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ} الآية [المائدة: 8].
وقال تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194].
__________
(1) في (ج): يدع له.
(2) في (ج): هواه.(1/88)
وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 39ـ42].
وقال تعالى يحكي عن لقمان إذ قال لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه فرض على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويقوموا بالقسط في عباده وبلاده، ويأخذوا للمظلوم من الظالم، ويمنعوا الظالم من ظلمه ويزيلوا الجور والبغي، بما أمكنهم وقدروا عليه.
ثم إنَّا نسأل اللّه البلاغ لنا ولكم إلى ذلك، والمعونة والقيام بها هادين مهتدين، صابرين محتسبين، لا مبدلين ولا مغيرين، حتى تكون كلمة اللّه هي العليا على كل كلمة، وحكمه العالي على كل حكم، وتكون كلمة كل من جار عن سبيل اللّه وأحكام من حكم بغير حكم اللّه هي السفلى، والله عزيز حكيم، ونسأل اللّه البر(1) الرحيم أن يصلي هو وملائكته على محمد النبي وعلى أهل بيته الطاهرين الأخيار، وأن يبدلهم بالخوف أمناً، وبالذل عزاً، وبالعسر يسراً، ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، إنَّه رؤوف رحيم.
تم الكلام في هذه الأصول والحمدلله وحده وصلواته على سيدنا محمد النبي وعلى أهل بيته الطاهرين وسلم.
*****
__________
(1) سقط من (أ): البر.(1/89)
كتاب العدل والتوحيد وتصديق الوعد الوعيد وإثبات النبوة والإمامة في النبي وآله(1)
عن الإمام المرتضى لدين اللّه، عن أبيه الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات اللّه عليهم أجمعين
m
قال الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن رسول الله، صلوات اللّه عليه وعلى آبائه الطاهرين وسلامه:
[التوحيد]
أول ما يجب على العبد أن يعلم أن اللّه واحد أحد، صمد فرد، ليس له شبيه، ولا نظير، ولا عديل، ولا تدركه الأبصار في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك أن ما وقع عليه البصر فمحدود ضعيف، مَحْوِيٌّ محاط به، له كُلٌّ وبعضٌ، وتحت وفوقٌ، ويمين وشمال، وأمامٌ وخلفٌ، وأن اللّه سبحانه لا يوصف بشيء من ذلك، وهكذا قال لا شريك له: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}[الإخلاص: 1ـ 5]، والكفو فهو المِثْل والنظير والشبيه، والله سبحانه ليس كمثله شيء. وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ}[الحديد: 4]، وقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ}[ق: 16]، وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَينَمَا كَانُوا}[المجادلة: 7]، وقال: {وَمَا كُنَّا غَائِبِيْنَ}[الأعراف: 7]، يعني في جميع ذلك أن علمه محيط بهم، لا أنَّه داخل في شيء من الأشياء كدخول الشيء في الشيء، ولا خارج من الأشياء بائن عنها فيغبى (2) عليه شيء من أمورهم، بل هو العالم بنفسه، وأنه عزَّ وجل شيء لا كالأشياء؛ إذ
__________
(1) هذا الكتاب ليس في (ج)، وأثبته من (أ) و(ب)، والنسخة (أ) عندي، وكذلك (أ) التي اعتمد عليها الدكتور محمد عمارة هي نسخة واحدة فليعلم.
(2) في ط: فيغيب، وفي هامشه، وفي (ب) معاً.(1/90)