فإن زعم زاعم أن اللّه يؤاخذهم بما علم منهم فقد كذب اللّه في خبره، وجوره في حكمه؛ لأنَّه لو رد أهل النار إلى الدنيا لعادوا كما قال عزَّ وجل، فلم يؤاخذهم بما علم منهم إذ لم يفعلوه. وقال (1): {وَلَو بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 27]، فقد علم أنَّه لو بسط لبغوا؛ فلم يؤاخذهم بذلك، وَالأطفال فأجدر أن لا يؤاخذهم بما لم يكن منهم. تعالى اللّه عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه لا يعذب الأطفال يوم القيامة، ولا يؤاخذهم بذنوب آبائهم، ولا بما علم منهم مما لم يفعلوه، وكذلك أطفال المؤمنين والمشركين، وأولاد الزنى والمجانين؛ إذا أصابهم الجنون في صغرهم فلم يفيقوا حتى ماتوا، فتعالى اللّه عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
باب ذكر حسن نظر اللّه لعباده
وذكر اللّه حسن نظره لعباده، وأنه لا يفعل بهم إلاَّ ماهو أصلح لهم في دينهم ودنياهم، وأن الإختيار له، وليس لهم عليه اختيار إلاَّ اختياره لهم في دنياهم، [وأن اختياره] (2) أصوب من اختيارهم لهم؛ فقال سبحانه: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68]، فأخبر أنَّه ليس لأحد أن يختار غير ما قضى الله، وأن الخيرة في قضائه وقدره، فلو قضى على قوم أن يكفروا كما زعم الجاهلون؛ لم يكن لهم أن يختاروا غير ذلك، تعالى اللّه عما يصفون.
__________
(1) كذا في النسخ والأنسب: ألا ترى كيف قال. أو نحوها.
(2) ما بين المعقوفين زيادة لاستقامة المعنى.(1/71)


وقال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، فأخبر أن تدبيره لو كان على ما يهوى العباد لفسدت الدنيا، وأنه لا يكون صلاح الدنيا وصلاح أهلها إلاَّ بما دبر لهم وخلق، وقضى وقدر واختار، وليس في الكفر والمعاصي صلاح ولا منفعة، ولا خير في دنيا ولا آخره، فبين بذلك أنها ليست من اختيار اللّه لخلقه، لأنها فساد في الدنيا والدين وسوء تدبير، وفاعلها ملوم مذموم، وهذا دليل على أنها من فعل المخلوقين، لا من فعل رب العالمين.
وقال تعالى: {وَالضُّحَى وَاللَّيلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُوْلَى} [الضحى: 1ـ4]، فأخبر أن الآخرة في وقت وفاة النبي عليه السلام (كانت خيراً له من الدنيا وما فيها، وبقاه ما كانت الحياة خيراً له، وتوفاه)(1) حين كانت الوفاة خيراً له، لذلك قال: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى: 4ـ8].
فعلمنا بهذه الآيات ونحوها أن نظر اللّه لخلقه أحسن من نظرهم لأنفسهم، (وأن اختياره لهم أفضل من اختيارهم)(2) وأن ما صنع اللّه فهو خير، وما قضى ففيه الصلاح، وأنه لا يفعل بعباده إلاَّ ما فيه لهم الصلاح والسداد والرشاد، وأنه يتعالى عما يصفه به الجاهلون من ذلك علواً كبيراً.
باب ذكر المؤمنين [وأسمائهم وأحكامهم]
__________
(1) سقط من (أ).
(2) سقط من (أ).(1/72)


وذكر اللّه المؤمنين في كتابه فأحسن الثناء عليهم، ومدحهم مدحاً جميلاً(1) فقال فيهم خيراً، وسماهم بأسماء حسنة، وحكم لهم بأحكام شريفة، وبين أنَّه لا يستحق هذا الاسم الحسن إلاَّ من قال بقولهم وعمل عملهم(2)؛ فقال عزَّ وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} إلى قوله: {ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} [التوبة: 71ـ72] فأخبر أن هذه واقعة لهم، وأن من كانت هذه صفته وفعله استحق هذا الاسم الشريف، واستوجب الجنان والرضوان.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيْمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2ـ4]، فأخبر أن هذه صفة المؤمنين، وأنه لا يستحق أن يكون مؤمناً إلاَّ من كان كذلك، وأن المغفرة والرضوان لأهل هذه الصفة دون غيرهم، وأخبر أن الإيمان يزيد وينقص. فأي بيان يكون أبين من هذا؟ وأي حجة تكون أنور من هذا في تكذيب المرجئة؟ الذين زعموا أن الجبابرة الظلمة، العتاة الطغاة البغاة الفجرة، الذين إذا خُوِّفُوا بالله لم يخافوا، وإذا ذُكِّرُوا بالله لم يذَّكَّروا؛ مؤمنون كإيمان جبريل ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم، وأن الإيمان ـ زعموا ـ لا يزيد ولا ينقص، وأن الوعيد ـ على ما وصفوه ـ لا يثبت، فنعوذ بالله من الجهل والعمى في الدنيا.
__________
(1) في (ج): جلياً، وفي (أ): جليلاً.
(2) في (ج): بعملهم.(1/73)


وقال اللّه تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب: 47]، وقال: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقال: {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فَاجْلِدُثوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، وقال عزَّ من قائل: {يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَينَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} الآية [التحريم: 8]، وقال تعالى: {يَومَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَينَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12]، وقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 146]، وقال سبحانه: {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68]، وقال: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62ـ63]، وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَومَ يَلْقَونَهُ سَلاَمٌ} الآية [الأحزاب: 43ـ44]، وقال سبحانه: {التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الْحَامِدُونَ} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112]، ولم يقل شيئاً من ذلك للفسقة الفجرة، ولا للعتاة الظلمة(1).
__________
(1) في (ج): للعتاة الكفره، وفي (أ): لعباده الكفره. ولعلها: العتاة.(1/74)


فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اسم الإيمان فاضل شريف حسن، وأن من سماه اللّه مؤمناً مسلماً(1)؛ فقد مدحه اللّه مدحاً شريفاً، وأثنى عليه ثناء جميلاً، وسماه بالفاضل من الأسماء، التي جعلها اللّه أسماء لنبيه (2)، وصفاتاً (3) لأوليائه، وأن من استحق هذه الإسم عندالله فهو ولي الله من أهل الجنة، وأن هذه الأسماء الحسنة الشريفة لا يستحقها الفجرة الفسقة، العتاة الظلمة، أصحاب الزنى، وشرب الخمور، وشهادات الزور، وقذف المحصنات، وترك الصلوات، وقطع الطرق على الحجاج، وهدم المساجد، وتحريق المصاحف، وهدم الكعبة، وانتهاك حرم المسلمين، وفعل قوم لوط، ونحو ذلك من الأفعال الشنيعة، القبيحة الفظيعة.
باب ذكر الأعمال الصالحة [وأنها من الإيمان]
__________
(1) سقط من (ج) و(أ): مسلماً.
(2) في (ج): لدينه.
(3) في (أ، ج): وصفات.(1/75)

15 / 209
ع
En
A+
A-