وقال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَآ أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] والسلطان: الحجة، فلو كان خلقها وصنعها كما زعموا؛ لكان قد أنزل لهم بها السلطان، والله يتعالى عن أن يكون لأحد عليه حجة.
وقال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5]، وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَو يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيْمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109]، وقال: {وَرَهْبَانِيَّةٍ ابْتَدَعُوهَا}[الحديد: 27]، فلو كان خلقها وشاركهم فيها؛ لم يقل: {ابْتَدَعُوهَا}، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
وقال: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [العنكبوت: 17]، فنسب ذلك إليهم، وأخبر أنهم فعلوه، ولم يقل: إني خلقت الإفك معهم، ولا تفردت به دونهم، كما زعم الجاهلون، فلو كان كما يقول الجاهلون لكان للإفك خالقان: أحدهما الله، والآخر الإنسان، تعالى من لا شريك له، ولا خالق لخلقه سواه(1).
__________
(1) سقط من (أ): سواه.(1/66)


وقال: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم: 89ـ92] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَآؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11]، فبين تبارك وتعالى الذين جاؤوا بالإفك، وقالوا(1) وادعوا الولد على اللّه عزَّ وجل، ثم تبرأ من ذلك ونفاه عن نفسه؛ فقال: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً}، فأخبر أنَّه لم يتخذ ذلك لنفسه، فلو كان خلق مقالتهم وفعلهم، كان هو الذي جاء بها وقالها، فمن وصف اللّه بهذا لزمه أن يزعم أن اللّه اتخذ الولد(2)، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً. وكل ما قلنا لم يخلقه اللّه فإنما نعني لم يفعله، فلا يتوهم أحد علينا غير ذلك.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه لم يخلق أعمال العباد، ولم يفعلها ولم يشاركهم فيها، تعالى من ليس له شريك وليس كمثله شيء.
باب ذكر الإستطاعة [وتكليف مالا يطاق]
__________
(1) سقط من (أ): وقالوا.
(2) في (ج): ولدا.(1/67)


وذكر اللّه الإستطاعة وتكليف مالا يطاق وما خلقه من ذلك؛ فقال سبحانه: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقال: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق: 7]، وقال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، فأوجب الحج على من استطاعه، ووضعه عمن لايستطيعه. وقال: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42] فأخبر أنهم يستطيعون الخروج ولكن لا يفعلون. وقال: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} الآية [المجادلة: 3ـ4]، فأخبر أنَّه من لا يستطيع الصيام فلا صيام عليه.(1/68)


وقال: {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [البقرة: 183ـ184] وإنما المعنى: لا يطيقونه، فأخبر أنَّه قد وضع عنهم الصيام، وجعل عليهم الفدية بدلاً من الصيام، لأن الصيام يُجْهِدُهم. وقال: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61]، فوضع التكليف عمن لا يستطيع. وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185] فأخبر أنَّه لا عسر في دينه ولا ضيق، فلو كلف عبيده مالا يطيقون ثم عذبهم لكان ذلك من(1) أضيق الضيق وأعسر العسرة، وقال: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، فلو لم يكن أعطاه القوة لم يأمره أن يأخذ بقوة. وقال: {نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} [النمل: 33] فلم يكذبهم ، ولم يرد عليهم مقالتهم؛ كما أكذب المنافقين حين زعموا أنهم لا يستطيعون الخروج وأنهم لو استطاعوا الخروج لخرجوا، فقال عزَّ وجل: {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42]. وكذلك العفريت حين قال لسليمان: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} [النمل: 39] فلم يكذبه اللّه ولم يرد عليه، ولا أكذبه سليمان صلى اللّه عليه. وقال: {فُخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَومَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا} [الأعراف: 145]، فلولا أنَّه أعطاهم(2) القوة على الأخذ لم
__________
(1) سقط من (أ): ذلك من.
(2) في (ج): أعطاه.(1/69)


يأمرهم(1) بذلك. ومثله: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَآ أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنْ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]، فأثبتت له القوة فلم ينكر عليها أبوها، ولم يكذبها ربها.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه لا يكلف أحداً من خلقه(2) مالا يطيق، وأنه قد قوى عباده على ما أمرهم به من طاعته، وبتلك القوة ـ التي جعلها فيهم لطاعته ـ يصير من صار منهم إلى معصيته، وبذلك علمنا أن الإستطاعة قبل الفعل.
باب ذكر الأطفال [وأن اللّه لايعذبهم]
وذكر اللّه في كتابه آيات دل فيها أنَّه لا يعذب الأطفال والمجانين، ولا من ليس له ذنب؛ فقال عزَّ وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، والأطفال لم يأتهم رسول، وكذلك المجانين. وقال: {وَلَو أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَينَا رَسُولاً} [طه: 134]، فأخبر أنَّه لا يعذب أحداً إلاَّ بعد أن تقوم عليه الحجة بالرسل، والأطفال لم تقم عليهم حجة برسول ولا غيره، وكذلك المجانين. وقال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164 وغيرها] (3)، فأخبر أنَّه لا يعذب أحداً بذنب غيره. وقال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، والأطفال والمجانين(4) فلم يأتهم رسول، ولا تلي (5) عليهم كتاب، وليسوا ظالمين.
وقال: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131] ولا غفلة أشد من غفلة الأطفال والمجانين.
__________
(1) في (ج): يأمره.
(2) في (ج): من عباده.
(3) سقط من (أ، ج): من قوله: فأخبر أنه..إلى هنا.
(4) سقط من (أ): المجانين.
(5) في (أ): ولم يتل.(1/70)

14 / 209
ع
En
A+
A-