وذكر اللّه أعمال العباد في كتابه فقال: {يَومَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسَ أَشْتَاتاً لِيُرَوا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة: 7ـ9]، إلى آخر السورة، وقال: {إِنَّمَا تُجْزَونَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16]، وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]، وقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}[ الحديد: 27]، وقال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَونَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن العباد يعملون خيراً وشراً، وطاعة ومعصية، وأنهم يكسبون ويفعلون، ويجترمون(1) ويبتدعون(2)، وتكون منهم حسنات وسيئات، وكل مافعلوه فإنما يفعلونه بقوة اللّه التي جعلها فيهم، ومنَّ بها عليهم، لا بقوة جعلوها لأنفسهم.
باب ذكر مشيئة العباد وإرادتهم
__________
(1) كذا ولعلها: ويجترحون.
(2) في (ج): ويتعدون.(1/61)
ذكر اللّه مشيئة العباد وإرادتهم في كتابه فقال عز وجل: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]، وقال: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35]، وقال: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيثُ يَشَاءُ} [يوسف: 56]، وقال: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وهذا على الوعيد(1) والتهدد، وكذلك قوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40].
وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ} [الفتح: 15]، وقال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67]، وقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عِدَّةً} [التوبة: 46]، وقال: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيماً} [النساء : 27]، وقال: {وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}[النساء: 60].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن العباد يريدون ما قد جعل اللّه لهم السبل إلى إرادته، ويشاؤن ما قد قواهم على مشيئته، غير غالبين لله ولا خارجين من سلطانه ومملكته(2)، وهذا خلاف قول القدرية، الذين يزعمون أن ليس لأحد من الخلق مشيئة ولا إرادة، مع قولهم: إنهم يريدون لأنفسهم الخير، والله يريد لهم بزعمهم الشر، ولا يدعهم يصلحون. تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
باب ذكر العبادة
__________
(1) في (ب): الوعد، وهو خطأ.
(2) سقط من (أ): ومملكته.(1/62)
وذكر اللّه في كتابه أنه خلق الخلق لعبادته فقال: {وَمَاخَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]، ولم يقل إني أرسلت الرسل ليُكَذَّبوا أو يُقَتَّلوا، ولا إني خلقت خلقي لعبادة غيري. وقال: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَونَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَولاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43ـ44]، وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوْتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} [البينة: 4ـ5].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه إنما خلق الخلق لعبادته وطاعته، لا لمعصيته والكفر به، كما زعمت القدرية المجبرة(1) أنه(2) خلق أكثر خلقه لعبادة غيره، ولم يخلقهم لعبادته تعالى عما يقولون(3) علواً كبيراً.
باب ذكر [فعل] المخلوق [وأن اللّه لم يفعله]
__________
(1) سقط من (أ): المجبرة. وفي (ج): المجورة القدرية.
(2) في (أ): أن اللّه ما خلق الخلق لعبادته وطاعته إلا لمعصيته والكفر به تعالى..إلخ.
(3) في (ج): عما قالوا.(1/63)
وذكر اللّه في كتابه أنه لم يفعل فعل عباده، ومالم يفعله لم يخلقه، لأن الفعل والخلق منه واحد، وقال عز وجل: {الْحَمْدُلِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء: 111]، فأخبر أن ليس له شريك في شيء مما خلق، فلو كان الأمر على ما زعمت القدرية أن اللّه خلق الكفر كله، و[أن] فعل الكافر كله لا يملكه اللّه دون الكافر، ولا يملكه الكافر دون الله، ولا يقدر العبد أن يفعله، ومتى فعله العبد خلقه الله، وإذا لم يفعله العبد لم يخلقه الله، ومحال ـ زعموا ـ أن ينفرد العبد به دون الله، أو ينفرد اللّه به دون العبد، فلو كان كما يقول الجاهلون لكان اللّه محتاجاً إلى المخلوق في فعله، وكان كل واحد منهما محتاجاً إلى الآخر فيه، وهذا الكفر بالله العظيم، تعالى اللّه عن هذه المقالة علواً كبيراً.
وقد نفى اللّه عن نفسه الكذب والكفر، وأضافهما إلى عباده؛ فقال: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَاهُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78]، فأخبر أن شركهم وكذبهم(1) ليس من كتابه ولا من عنده، ولو كان خلقه لكان من عنده، ولم يكن ليقول ليس من عندي وهو من عنده، تعالى اللّه عن الكذب علواً كبيراً.
__________
(1) في (أ): وكفرهم.(1/64)
وقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} [المائدة: 103]، وقد علمنا أن اللّه خلق الشاة والبعير، فلم ينف عن نفسه ما خلق(1)، وإنما نفى عن نفسه تحريمهم(2)ما حرموا، وكفرهم وحكمهم بمالم يأمرهم اللّه به، ولم يأذن لهم فيه؛ فقال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، فلو كان ذلك التحريم، وذلك القول(3) الذي قالوه، وجعل ذلك الشق الذي شقوه في آذان أنعامهم منه؛ لم يكن ليقول مرة: ليس هو من عندي، ومرة: لم أجعله، ومرة: من عندهم، ومرة: لم آذن لهم فيه؛ وهم الذين جعلوه، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً. وقال: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تَظَّاهَرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكَ قَولُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} الآية [الأحزاب: 4]، فأخبر تبارك وتعالى أنه لم يجعل ذلك الذي جعلوه، ولم يقل ذلك القول(4) الذي قالوه، وأنه قولهم بأفواههم، وأنه لا يقول إلا حقاً، فلو كان خلقه وصنعه ـ كما يقول من لا علم له ـ لم ينفه عن نفسه سبحانه وتعالى، وينسبه إلى عباده، كما لم ينف عن نفسه خلق السموات والأرض، ولا شيئاً مما خلق، ولا نسب شيئاً مما خلق إلى فعل عباده، عز عن ذلك وتعالى علواً كبيراً.
__________
(1) في (ج): عن نفسه خلقهما.
(2) في (ج): تحريم.
(3) سقط من (ج): القول.
(4) سقط من (ج): ذلك القول.(1/65)