قال اللّه تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَينِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23]، فأخبر سبحانه أنه قضى بعبادته وبر الوالدين، (ولم يقض بعبادة غيره وعقوق الوالدين)(1)، وقال: {يَقْضِي الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57](2)، ولم يقل أنه يقضي بالباطل، وقال: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: 20]، وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَينَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 93] فأخبر أنه لا يقضي في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالحق.
وقال: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّيِنَ بِغَيرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61] (3)، وقال: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 71]، وقال: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، وقال: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء: 81]، فأخبر أن الحق من عنده ومن قضائه، وأن الباطل من المبطلين، ولا يكون الباطل من عند أصدق الصادقين.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أنه لا يقضي بالباطل إلا المبطلون، ولا بالجور إلا الجائرون، تعالى اللّه عن ذلك رب العالمين.
بابُ ذكر قَدَرِ اللّه تعالى في كتابه
__________
(1) سقط من (أ).
(2) في (ج) و (أ): (يقص الحق)، وما اثبته قراءة من (ب).
(3) سقط من (أ) من قوله: فأخبر أنه.. إلى هنا.(1/56)
قال اللّه عز وجل: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرِّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ وَالقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}[يس: 38ـ39]، وقال: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَينَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 60]، وقال: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16]، وقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب: 38]، وإنما أمرنا بالطاعة ولم يأمرنا بالمعصية(1)، وأَمْرُه بِها قَضاؤُه وقَدرُه، فالطاعة منسوبة إلى قضائه وقدره؛ لأنه أمر بها، والمعصية منسوبة إلى العصاة؛ لأنهم ارتكبوها بعد ما نهاهم اللّه عنها، وإنما ذكر اللّه القدر في خلقه وصنعه، وتدبيره وأمره، ومصالح عباده في دينهم ودنياهم، ولم يجعله في شتمه والفِرَى عليه، ولا في قتل أنبيائه وتكذيب رسله، ولا في شيء مما غضب منه، وعابه وعاب أهله، وعذبهم عليه.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أنه لا يسخط شيئاً من تقديره، ولا يقدر شيئاً ثم يغضب منه، ويعيبه ويعيب من فعَلَه، لأن الحكيم لا يغضب من تقديره، ولا يعيب شيئاً من تدبيره، تعالى اللّه عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
باب ذكر الإرادة
ثم ذكر اللّه سبحانه الإرادة في كتابه، فقال: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26]، وقال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء: 27ـ28]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ} [غافر: 31].
__________
(1) في (أ): وإنما أمر بالطاعة ونهى عن المعصية.(1/57)
وقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32]، وقال: {وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء :60]، وقال: {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} [النساء: 44]، فأخبر تبارك وتعالى أن إرادته الصلاح والرشد واليسر، وأنها ليست في الظلم والغشم والكذب والفساد، وأن إرادة الشيطان وأهل الباطل إنما هي في الكفر والظلم والمعصية والفساد، فمن أبى أن يقبل ما أمره اللّه به، وينتهي عما نهاه اللّه عنه، كان من إرادة اللّه وحكمه أن يصليه النار بما كسبت يداه، وجناه على نفسه(1). فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه إذا (أمر بشيء فقد أراده إرادة أمر لا إرادة جبر، وإذا) (2) نهى عن شيء لم يرده، ولم يُغْلَب على كونه، (والله حكيم لا يأمر بما لا يريد، ولا ينهى عما يريد)(3) والله غالب غير مغلوب، وأنه أحكم الحاكمين.
باب ذكر المشيئة
__________
(1) سقط من (أ) و(ج): من قوله: وأن إرادة الشيطان.. إلى هنا.
(2) سقط من (أ).
(3) سقط من (أ).(1/58)
وذكر اللّه المشيئة في كتابه فقال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148]، وقال(1) أيضاً : {لَو شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلاَ آبَآؤُنَا} [النحل: 35] الآية، {وَقَالُوا لَو شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَالَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20]، فَلَمَّا أضاف المشركون شركهم وكفرهم وعبادتهم لأصنامهم إلى مشيئته وأمره؛ رَدَّ اللّه في ذلك عليهم وأكذبهم، وأخبر أن ليس كما قالوا، وأنهم يتبعون الظن، ويكذبون على اللّه وعلى مشيئته وأمره، كما قال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيهَا آبَآءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَالاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28]، فبين أنه لا يشاء الشرك ولا يأمر به، وأمره ومشيئته في الطاعة واحدة.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه لا يشاء الشرك، ولا يأمر به ولا يريده، وليس بمغلوب على شيء إلا غالب غير مغلوب، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علواً كبيراً(2).
باب ذكر المحبة في كتاب اللّه
__________
(1) في هامش (أ): وقالوا.
(2) سقط من (أ): من قوله: فبهذه الآيات..إلى هنا.(1/59)
وذكر اللّه المحبة في كتابه فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَولُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة: 204ـ205]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77]، وقال: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]، والمعاصي كلها كثيرها وقليلها فساد، وقد أخبر اللّه أنه لا يحب الفساد.
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه لا يحب المعاصي، ولا يحب أن يُعْصَى، تعالى عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
باب ذكر الرضى [والكراهة]
وذكر اللّه الرضى في كتابه فقال: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، وقال: {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَالاَ يَرْضَى مِنَ القَوْلِ} [النساء: 108]، وقال: {اتَّبَعُوا مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَونَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ إِلَى الإِيْمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَالاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَاللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [ الصف: 2 ـ 3]، وقال: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 38].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن اللّه لا يرضى المعاصي، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
باب ذكر أعمال العباد(1/60)