فهذا ديننا وحجتنا على من خالفنا في المنزلة بين المنزلتين.
وأما شهادتهم لنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فإنهم شهدوا أن ذلك واجب إذا أمكن وقدر عليه، وشهدوا أن نصرة المظلوم فرض، والأخذ على يد الظالم فرض إذا أمكن ذلك؛ ثم اختلفوا بعد ذلك.
فقال منهم قائلون: لا ندفع الظالم عن أنفسنا ولا عن غيرنا إلا بالقول والكلام، وإن انتهبت أموالنا، وانتهكت حرماتنا لم نقاتل بالسلاح، وإن كان في ذلك دفع الظلم عنا وعن المسلمين، ولكنا نترك الظالمين والباغين يبلغون منتهى حاجاتهم منا، ومن حرماتنا وأموالنا؛ ثم يمضون سالمين.
وقال آخرون: نقاتل وندفع عن أنفسنا وعن حرماتنا وأموالنا بالسلاح وغيره، فإن قتلنا رجونا أن نكون (شهداء، وإن قتلناهم رجونا أن نكون) سعداء.
فلما شهدوا أن نصرة المظلوم حق، ودفع الظلم والأخذ على يد الظالم فريضة لازمة لمن قدر عليها؛ علمنا أنه لا يخرجنا من هذه الفريضة إلا أداؤها، والقيام بها بالسلاح وغيره، إذا أمكننا ذلك.فأخذنا بما أجمعوا عليه لنا في أصل شهادتهم، ولم نترك ذلك كما تركه الآخرون، وهم على دفعه قادرون.
فهذا ديننا وحجتنا على من خالفنا في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ودفع الظالم.
فمن أقام على هذه الأصول كما أقمنا، ودان بها كما دِنّا ، وعمل بما استحق اللّه عليه فيها؛ فهو منا، وأخونا وولينا، ندعوه إلى ما أجابنا، ونجيبه إلى ما دعانا، ومن خالفنا وفارقنا عليها؛ حاججناه بالمحكم من كتاب الله، ورددناه إلى المجمع عليه من سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم؛ فإن قبل ذلك كان له مالنا وعليه ما علينا، وإن أبى إلا المخالفة للحق والمعاندة للصواب؛ كان اللّه حسبه(1) وولي أمره، والحاكم بيننا وبينه وهو خير الحاكمين.
وقد ذكرنا من كتاب اللّه عز وجل تحقيق ما قلنا، وتصديق ما وصفنا.
باب ذكر التوحيد في كتاب اللّه عز وجل
__________
(1) في (أ): حسيبه.(1/51)
إن اللّه تبارك وتعالى ذكر التوحيد في كتابه فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُؤاً أَحَدٌ}[الصمد: 1ـ4]، فأخبر سبحانه أنه الواحد الأحد، الذي ليس بوالد ولا ولد، وأنه ليس له كفؤاً أحد ولا شبيه، في وجه من الوجوه(1).
وقال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}[مريم: 65]، يقول: كفؤاً أو نظيراً.
وقال: {لَيسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى: 11]، وقال: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الأنعام: 103]، ولم يقل في الدنيا دون الآخرة، فنفى عن نفسه درك الأبصار في كل وقت من أوقات الدنيا والآخرة، كما نفى عن نفسه السنة والنوم في الدنيا والآخرة على كل وجه من الوجوه (فقال: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}[البقرة: 255]، كما نفى عن نفسه الظلم في الدنيا والآخرة فقال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}[يونس: 44]، وكما نفى عن نفسه أن يكون له شبيه في الدنيا والآخرة على كل وجه من الوجوه)(2) بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
وقال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَآءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ العَلِيمُ}[الزخرف: 84] فنفى عن نفسه أن يكون في مكان دون مكان؛ لأن من كان في مكان دون مكان فمحدود، والله غير محدود، ولا يحيط به شيء وهو بكل شيء محيط.
وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] إلى آخر الآية.
فبهذه الآيات ونحوها احتججنا على من خالفنا، ومن شبه الخالق بالمخلوق، وعلمنا أن اللّه لا يشبهه شيء (3) في وجه من الوجوه.
__________
(1) في (ب): أحد من خلقه.
(2) سقط من (أ) من قوله: فقال (لا تأخذه سنة)...إلى هنا.
(3) في (أ): لا يشبه شيئاً.(1/52)
بابٌ في خلق القرآن
وذكر اللّه القرآن فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: 9] فأخبر أنه منزل محفوظ، كما قال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}[الحديد: 25]، وكقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}[الزمر: 6]، وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً مُبَارَكاً}[ق: 9] ولم يقل: خلقنا الحديد والماء والأنعام، وكل ذلك مخلوق.
وقوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الأنعام: 102]، وقوله: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَابَيْنَهُمَا}[الفرقان: 59]، وكذلك القرآن لأنه شيء، وهو بين السموات والأرض. وليس القرآن من أعمال العباد التي أضافها اللّه إليهم في كتابه، ولا من صنعهم الذي نسبه اللّه إليهم؛ فالقرآن داخل في هذه الآيات ـ دون عمل العباد ـ كالأنعام والحديد.
وقال: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}[الشورى: 52]، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}[الأنعام: 1]، فأخبر أنه نور، والنور مخلوق. وقال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً}[الزخرف: 3]، وقال: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوجَهَا}[الأعراف: 189]. وكذلك خلق القرآن، إذ جعله قرآناً عربياً، كما {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالقَمَرَ نُوراً}[يونس: 5]؛ بأن خلقهما كذلك.
وقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}[الأنبياء: 2]، وقال: {أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً}[طه: 113] فأخبر أنه محدث، وأنه ليس بقديم، وإذا كان محدثاً فالله أحدثه، وهو مخلوق والله خلقه.(1/53)
وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}[التوبة: 6]، وقال: {يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة: 75]، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوحَينَا إِلَيكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيْمَانُ}[الشورى: 52]، وقال: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}[النساء: 171]، وقال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر: 29]، وقال: {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا}[التحريم: 12]، فأخبر أن القرآن كلامه وروح من أمره، وأن عيسى كلمته وروح منه، وأنه نفخ في آدم من روحه، وكذلك في مريم، ثم أجمل ذلك كله فقال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَاللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}[آل عمران: 59] فأخبر أن معنى الكلمة والروح خلق من خلقه، وتدبير من أمره، وكذلك القرآن سماه كلامه(1)، وروحاً من أمره، ومعنى ذلك: أنه خلقٌ من خلقه، وتدبيرٌ من تدبيره وأمره(2)، وقال: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}[النحل: 101]، وقال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة: 106](3).
__________
(1) في (ج): كلاماً.
(2) سقط من (أ): من قوله: وكذلك القرآن... إلى هنا.
(3) فذكر التبديل والنسخ وهما من خواص المخلوقات.(1/54)
فبهذه الآيات ونحوها خَالَفْنا من زعم أن القرآن ليس بمخلوق، وعلمنا أنه مخلوق محدث، وأن اللّه خالقه.
باب ذكر عدل اللّه في كتابه
قال اللّه عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل: 90]، وقال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِاللَّهِ أَوْفُوا}[الأنعام: 152]، وقال: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وقال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَالاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالقِسْطِ} [الأعراف: 28ـ29]، وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَالَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَالاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وقال: {الشَّيطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالفَحْشَآءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
فبهذه الآيات ونحوها علمنا أن العدل والإحسان من اللّه تبارك وتعالى، وأن الظلم والعدوان من عمل الشيطان، وفعْلِ الإنسان، والله من ذلك برئ، تبارك وتعالى عما يقول الجاهلون علواً كبيراً.
باب ذكر قضاء اللّه في كتابه(1/55)