الكتاب : مجموع كتب ورسائل الإمام الهادي (ع) المؤلف : الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين(ع) |
مقدمة التحقيق
مدخل
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين، نحمده ونثني عليه بما أثنى به على نفسه، لا نحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهاً واحداً أحداً فرداً صمداً، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطاهرين، ورضي الله عن صحابته الراشدين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فإن في تاريخنا الإسلامي عموماً والزيدي خصوصاً نماذج ممتازة وعبقريات فذّة، شكلت في سلسلته الطويلة نقاطاً مضيئة على هداها يهتدي الدعاة السائرون في دروب الحياة، وخصوصاً من عباقرة البيت النبوي الطاهر؛ بما قاموا به من دور ريادي متميز وبطولات وانتفاضات استهدفت استعادة حق الأمة السليب في العيش الهانيء، والكريم في ظل عهود اتسمت بالظلم والاستبداد والغلبة والقهر وتكميم الأفواه.
وإن من تلك الشخصيات الفذَّة والمتميزة شخصية الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي بما حملته من فكر قوي ناضج، مستمد من العقل والكتاب العزيز، وبما سجلته من بطولة وشجاعة ومواقف جهادية رائعة، وبما اختطته من حكم إسلامي عادل راشد مستمد من الخلافة النبوية مضيفاً إليها بعض المستجدات التي اقتضتها ظروف حكمه وعصره.(1/1)
وقد تناوَلَتْ تلك الشخصية الكثير من الأقلام والدراسات، وقدمت (مشكورة) عطاء جيداً على الأقل من وجهة نظرها وحسب رؤيتها، وفيها الكثير من النتائج التي قد نوافقها عليها أو نختلف معها فيها، وهذا شيء طبيعي، ذلك لأن التقييمات تختلف، وتقييم أي شخصية ينطلق من وجهات ثلاث: الأولى: تقييمها كما كانت وكما هي، وهذا متعذر أو متعسر، حتى لمن عاصرها فضلاً عمن جاء بعدها لاختلاف نظرات المقيمين. والثانية: تقييمها كما يراها الدارس، وكما يعتقدها وتلك هي الأقرب إلى الواقع مهما صدقت المادة والجزئية التي يعتمد عليها في التقييم، وأحسن الأخذ عنها. والثالثة: تقييمها كما يريد أن يراها وأن تكون، وقد ينطلق في رؤيته من القداسة المطلقة فلا يرى إلا الإيجابيات وقد يضخمها، وقد ينطلق من ضدها فلا يرى إلا السلبيات وقد يضخمها أيضاً، وهكذا قد لا تأتي النتائج واقعية ودقيقة.
غير أن أوسطها وأقربها من الحقيقة هي الثانية؛ لما هي عليه من واقعية واعتدال، وكلما قربت في استنتاجاتها من واقع الشخصية وبيئتها وعصرها كلما كانت أقرب إلى الاعتدال والصواب.
وقد ينطلق بعض الدارسين للشخصية من واقعه هو وعصره، بل وحتى تفكيره غير معرج على واقع وعصر الشخصية موضوع الدراسة وبالتالي يخطي في تقييمه وفي نتائجه، ويحمل شخصيته ما لا تحتمل وربما لا يصل إلى حقيقة الشخصية ويبعد عنها كثيراً؛ لأن النظرة الصحيحة لا بد أن تأخذ واقع الشخصية ـ في غير النوابغ الذين سبقوا عصورهم ـ بكل ظروفه وأبعاده بعين الاعتبار، وخصوصاً في مجال الحكم والسياسة والتي يشهد عصرنا تجديداً فيها.(1/2)
وحتى يكون حكمنا صحيحاً على أي دراسة لشخصية الإمام الهادي أو كتابة عنه ينبغي أن ننطلق في تقييمنا لتلك الدراسة مما تقدم؛ لكي نتعرف على بعض النتائج الخاطئة ـ في رأينا ـ التي ظهرت في بعض تلك الدراسات أو الكتابات عن الإمام منطلقين من توخي الحقيقة لا لعصبية ولا هوى، وإليك بعض النماذج من ذلك للتمثيل.
فمن تلك النماذج ما زعمه بعضهم من: (( أن وصول الإمام إلى اليمن كان وصول الغازين ذوي الأطماع التوسعية حباً في التسلط والسيطرة وتوسيع رقعة المملكة طمعاً في المال )) كما يفهمه كلامه.
وأول ما في هذه النظرة أنها انطلقت من مفهوم العصر الحاضر الذي أصبح فيه المجتمع الإسلامي مقسماً إلى أقطار ودويلات بفعل غزو الاستعمار ومطامعه التوسعية سياسياً واقتصادياً، وكأنه تناسى أن مفهوم المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية حسب مفهوم الخلافة الإسلامية وفي ذلك العصر لم يكن هكذا لا عند الحاكمين المستبدين ولا عند الثوار المعارضين ولا في ذهن الرأي العام، وأن ذلك المفهوم جاء بعد التقسيم الاستعماري لبلاد الإسلام ولم يكن ـ على الأقل ـ قد تبلور بالشكل الذي انتهى إليه في عصرنا.
وثانياً: أن الذي تحكيه التواريخ اليمنية ـ ومنها الإكليل ـ أن الإمام جاء بطلب من اليمنيين عبر بعثة يمنية ذهبت إلى الرس لطلب قدوم الإمام من آل فطيمة الخولانيين بصعدة كما يروي الهمداني وغيره، ومثل هذا المقدم واضح أنه ليس مقدم الغزاة الطامعين التوسعيين.
وثالثاً: أن حال أسرة الإمام من الناحية الاقتصادية بالذات كان ميسوراً في المدينة المنورة، فكانت لهم ضياع واسعة هناك كما يعرف ذلك من له أدنى إلمام بحالهم.(1/3)
ورابعاً: أن مفردات سيرة الإمام مدة حكمه في اليمن كانت على خلاف تلك الدعوى، فلم يستأثر الإمام له أو لأسرته بشيء من الإقطاعات والضياع، بل قد حكت سيرته أنه كان يعيش مدة حكمه من غلول أرضه بالمدينة، وتحرجه في (( بيت المال )) أشهر من أن يستدل عليه، ويكفي الناظر أن يقارن حكمه بحكام عصره بل بحكم الخلفاء الراشدين وبالذات في الجانب الاقتصادي وسياسة المال ليعرف الحقيقة.
وخامساً: أن سيرته والسير غيرها حكت مغادرته اليمن حين رأى من بعض رعاياه ما لا يعجبه قائلاً (( والله لا أكون كالسراج يضيء لغيره ويحرق نفسه، والله ما هي إلا سيرة محمد أو النار ))، فذهب وفد آخر يطلب قدومه للمرة الثانية فتمنع ثم قبل العودة بشروط مذكورة في السيرة.
وسادساً: أنه اشتهر في دعوته قوله مخاطباً اليمنيين: (( يا أهل اليمن لكم عليَّ ثلاث: أن أقدمكم عند العطاء، وأتقدمكم عند اللقاء، وأن أساويكم بنفسي في الفيء، ولي عليكم اثنتان: أن تطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، وأن تنصحوا لي وتنصروني في السر والعلانية )) أو كما قال، وهذه ليست دعوة الطامعين المتسلطين، بل هي دعوة الراشدين التي تعطي للرعية دور الرقابة لسلوك الحاكم وحق الاعتراض والاستيضاح والمشورة.
هذا إضافة إلى أنه قد اكتفى عند دخوله اليمن ببعض قرابته ومواليه ومن خف معه في طريقه إلى اليمن، حيث كانوا قرابة خمسين.(1/4)
ومن تلك النماذج ما اعترضه بعضهم من سيرة الإمام في المعارضين لحكمه والمتمردين عليه وتعامله معهم خصوصاً في بعض العقوبات التي كان ينفذها فيهم من الهدم والتحريق وقطع النخيل والأعناب، منطلقين من رؤية العصر ـ النظرية طبعاً لا العملية ـ في الحكم وفي العقوبة، ولكنهم تناسوا منطق عصر الإمام في مثل هذه القضايا، وأن الحاكم ـ بعد بيعته والرضى عن حكمه من خلال اجتهاده وورعه وتقواه ـ كان صاحب القرار الأول والأخير في ما هذا حاله، وكانت الرعية آنذاك تكتفي بطلب الحجة واستيضاحها لما أنكرته من سيرة الحاكم وسياسته، ولا شك أنه كان المستقر في الأذهان أن للإمام أن يسير على وفق رؤيته واجتهاده وظروف عصره وواقعه في ذلك، وقد وقعت بعض مفردات مثل ذلك في سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وآله وسيرة الخلفاء في بعض المواقف التأديبية، (بل وقد يقع مثلها في عصرنا وأشد منها تدميراً وخراباً للأرض والإنسان)، وغزوات الرسول والخلفاء في مثل هذا واضحة، وكذلك سير الحروب قديماً وحديثاً.
وقد احتج الإمام لما كان يفعله من ذلك بحجج من القرآن والسيرة كما ذلك معروف في سيرته حين اعترض عليه فيها.
ولكن خطأ التقييم جاء ـ في نظري ـ من البعد عن عصر الإمام وظروف واقعه وطبيعة (( الحكم والمعارضة )) في عصره وقبل عصره، حيث انطلق التقييم من عصرنا وطبيعة حكمه ومعارضته في الحكم الدستوري ودولة المؤسسات للحكومة المنتخبة بطريقة العصر والمعارضة السلمية المشروعة كما هي عليه في واقع الحكم النظري في عصرنا، وإذا أدركنا الفرق بني المفهومين للحكم والمعارضة في ذلك العصر وهذا العصر أدركنا مبرر تلك الأشياء المستنكرة.(1/5)