[ضرورة الإمامة]
فَمَنْ - إن كانوا فوضى – للحدود ؟! وما عهد الله إلى الأئمة فيها من العهود، مَنْ لِحَدِّ الفاسق والفاسقة ؟ ولحكم الله في السارق والسارقة ؟ مَنْ لقاذف المحصنات ؟ ومنع إبراز المؤمنات ؟ مَنْ لحكم التفصيل ؟ وإصابة خفي التأويل ؟ مَنْ يهدي أهل الجهل والضلال ؟ والاحتجاج بحجج الله على أهل الابطال ؟ أما سمعت قول الله جل ثناؤه، وتباركت بقدسه أسماؤه:? سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون، الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ? [النور: 1 – 3]. مع جميع حكم الله فيها وفي غيرها، وما أمر به في أحكامه من تنفيذها، فهذا في وجوب الإمامة هكذا، وكفى من أنصف ولم يَحِف بهذا، مع حجج كثيرة تركت تكلفها، وألقيت إليك منها جملها، كراهية للاكثار، واكتفآء بالاقتصار، مع أُخرَ لابد من ذكر معترض عروضها، وتكلف تبيين ما استتر من خفي غموضها، فافهم نشر مذكورها، واسمع لذكر منشورها، بإذن واعية من واعٍ، وارعها رعاية انتفاع .
اعلم أن هذا العالم وما فيه معا، لا يخلو من أن يكون محدَثا مبتدَعا، من أحكم الحاكمين، وأن يكون لواحد لا لاثنين، فإذا ثبت أن ما وجد من العَالَم وتدبيره، وما بني عليه من حكم تهيِيئه وتقديره، لواحد حي، حكيم عَلِيٍّ، ليس له ضد يناويه، ولا ند يماثله فيكافيه، ولا به آفة تضره، ولا ضرورة تضطره، إلى ما أحدث وصنع من بدائعه، ( وابتدع في الأشياء من صنائعه، فكان كل ما أحدث من بديعه )، واصطنع جل ثناؤه من صنيعه، عن أمرين، ولشيئين:
أحدهما: الاختيار فيما ابتدأ، وحكمة ماضي إرادته فيما أنشأ.(2/64)


والأمر الثاني: فإحكام تدبير منشاه، وتبليغه غاية مداه، بإحداث ما لايكون بلوغ المدى إلا به، وما يريد الحكيم من إبقاء المنشأ بأسبابه، من موآد الأغذية، وحوط المنشأ من كل مفنية، ثم يكون ذلك في لطف مدخله، وحوط فرعه من الفساد وأصله، على قدر حكمة تدبير المدبِّر، واقتدار قدرة العليم المقدِّر، فلا يمكن في حكمة التدبير، ولا تدبير ذي العلم القدير، أن يريد كون بقائه، إلا مع خلقه لمقيم إبقائه، من مآدة الغذاء، وتركيب آلة الإغتذاء، من الأفواه والأوعية، وبسط الأيدي المغتذية، لاستحالة بقاء المبقى، مع عدم مابه يبقى، واستنكار دوام دائم، أوتوهم قوام قائم، جعلهما الله لا يدومان إلا بمديمهما، ولايقومان طرفة عين إلا بمقيمهما، ثم يقطع المديمَ المقيمَ لهما عنهما، وهو مريد مع قطعه لدوامهما ؛ لما في ذلك من الجهل الذي تعالى الله عنه، وخطأ التدبير الذي بَعُدَ سبحانه منه .(2/65)


[تدبير الخلق]
كنحو ما خلق من حيوان الأشياء، الذي خلقه لا يبقى إلا بمآدة الغذاء، وجعل غذآءه لا يكون إلا ببرد الأرض والماء، وبما فطر سبحانه من حرارة النار والهواء، وبما جعل من فصول السنة الأربعة، وجعل السنة لا تكون إلا بشهورها المجتمعة، وجعل الشهور لا تتم إلا بأيامها ولياليها، وما قدرها الله عليه من تواليها، وجعل الأيام لا تتم إلا بساعات أزمانها، والأزمان لا تتم إلا بحركة الأفلاك ودورانها، ثم فصل تعالى الليل من النهار، وفرق برحمته بين الظُّلَم والأنوار، لتمام ما أراد من إبقاء المدبَّر، ولينتشر في النهار كل منتشَر، في ابتغاء حاجاته، وليسكن في الليل من فتراته، ولم يجعل الليل والنهار سرمدا، ولم يُعَرِّ منهما من خلقه إلا مخلدا، فقال سبحانه :?قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة مَن إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون، قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ? [القصص: 70 – 71]. فجعل الليل والنهار رحمة منه، ثم قسم تبارك وتعالى السَّنَةَ، فجعلها أربعةً أزمانا، وفنَّنَها للبقاء أفنانا، من شتآء وصيف، وربيع وخريف، ثم قدَّر في كل فن، ومع كل زمن، من الأغذية ضربا، يابسا فيه ورطبا، لا يصلح في غيره، ولا يتم إلا بتدبيره، وجعل هذه الأزمنة عمودا لتناسل الحيوان، وعلة لبقائهم إلى ما قدر لهم من الأزمان.(2/66)


[أصناف الخلق]
ثم جعل الحيوان ضروبا، وجعل أغذيته شعوبا، فمنهم الناس المغتذون بطيب الأغذية، ومنهم الطير والدوآب وفنون الأشياء الحية، المكتفية بأثفال الغذاء، وتيسير مؤونة الاغتذاء، فبنى الناس على خلاف بنية المسخَّر لهم من الحيوان، وبانوا منهم بفضيلة الفكر ونطق البيان، فدبروا أغذية معائشهم بالفضيلة، واستعانوا في ذلك بتصرف الحيلة، وكُفِي ذلك غيرهم من الحيوان، ولولا ذلك لما بقوا ساعة من زمان.
فكل مذكور من أجناس البهائم، المسخرة لمنافع بني آدم، فمبني على النقص مما ذكرنا من فضيلتهم، عاجز عما جعل الله لهم من متصرف حيلتهم.
وكذلك كان بنوا آدم في بَدِيِّ مولدهم، في عجزهم عن نيل منافع غذآئهم ورشدهم، وجهلهم لِمُصلِحِهم في الأمور من مفسدهم، فلو كان الناس – إذ ابتدئوا، عندما فُطِرُوا وأُنشِئُوا، لم يجعل لهم ولا فيهم، من يغذوهم ويقوم عليهم - لهلكوا ولم يبقوا وقت يوم واحد، لما يحتاجون إليه في النفاس وعند المولد، من تلفيف الولدان بخرقها، وتسوية أعضاء خلقها، ولكن الله تبارك وتعالى جعل لهم في الابتداء، آباء قاموا بكفاية المصلحة والغذاء، حَدُّهم في العلم بمصلحتهم غيرُ حدِّهم، فَغَذَّوْهم برأفة الأبوَّة وبُصْرِ التربية في مولدهم، إلى بلوغ قوة الرجال، والاستغناء بنهاية الكمال.(2/67)


ولا بد لهذه الآباء، التي قامت على الأبناء، من أن تكون في المبتدأ، وعند أول المنشأ، من الجهالة في مثل حال أبنائها، محتاجة إلى تربية آبائها، ولا بد كيف ما ارتفع الكلام في هذا المعنى من أبناء يقوم عليها آباؤها، وآباء كانوا كذلك في الأصل إذ ابتُدِئَ إنشاؤها، في مثل حد أبنائها، من جهلها وقلة اكتفائها، حتى يعود ذلك إلى أب واحد، منه كان ابتداء النسل والتوالد، ولا بد للأب الأول من أن يكون أدبه وتعليمه، على خلاف أدب من يكون بعده، إذ لا أب له ولا يكون أدبه وتعليمه إلا من الله، أو من بعض من يؤدبه ويعلمه من خلق الله، فإن كان من مخلوق أخذ أدبه، فلا يخلو ذلك من أن يكون الله أوغيره أَدَّبه، وكيف ما ارتفع الكلام في هذا المعنى، فلا بد من أن يعود إلى أن خلق ابتداء أدبُه من قبل الله الأول البَدِيّ، ولا بد للأب الأول، الذي هو أصل التناسل، من أن يكون مؤدِّبا معلِّما للجوامع، من معرفة جهات المضآر والمنافع، مخلوقا على الفهم، وقبول أدب المعلم، ليتم بذلك من فهمه، نفع تعليم معلمه، فيقوم به على نفسه، وعلى مَن معه مِن وُلْده، من الأخذ لهم بأدبه، وعقاب مذنبهم بذنبه، وثواب محسنهم بإحسانه، وتوقيف كلٍّ على ضره ونفعه، كي يتم بذلك ما أريد لهم من البقاء، وعنهم من تأخير مدة الفناء .(2/68)

99 / 201
ع
En
A+
A-