وفيه وفيهم ما يقول الله سبحانه: ? وحآجه قومه قال أتحآجونني في الله وقد هدانِ ? [الأنعام: 80]. يقول صلى الله عليه وسلم: وقد أراني من آياته، ودلائل معرفته، ما أراني من أرضه وسمائه، وفطرته لهما وإنشائه، فنجاني من هلكتكم بجهله، والاشراك به، وخصَّني مع النجاة من هداه لي [باليقين]، ولو لا هداه لي لعبدتُّ كما عبدتم الآفلين، وكيف يكون[إلها] من أفل، وزال عن معهود حاله وتبدل ؟!! وفي تبدل الذات والصفات والأحوال، ما لا يدفع عن المتبدل من الافناء والابطال، وما بطل وفني، فخلاف ما دام وبقي، وما اختلف وتفاوت من الأشياء، فليس يحكم له ـ إلا من ظلم ـ بالاستواء! فكيف سويتم في معنى، بين ما يدوم وبين ما يفنى ؟! إلا أن تساووا في مقال واحد بين كاذب وصادق، وكما سويتم فيما تحبون من العبادة وغيرها بين مخلوق وخالق.(2/59)


وفي ذلك من جور الحكم في العقل والمقال، ما لا يجهل جورَه أجهلُ الجهال، بل فيه عن الله أحول المحال، وما لا يمكن اجتماعه في حال، فلما قطعهم صلى الله عليه وسلم بحجته في مقالته، خسئوا صاغرين عن منازعته ومجادلته، فلما صموا عن إجابته بعد الهدى، هاجر إلى الله سبحانه عنهم مجاهدا، وقال: ? إني ذاهب إلى ربي سيهدينِ ? [الصافات: 99]. يريد: سيهدين يزيدني بمهاجرتي إليه من هداه فيقويني، فَهداَه في هجرته سبيله، وجعله بهداه له خليله، فلم يزل صلى الله عليه وسلم مهتديا، حتى قبضه الله على هداه ورشده رضيا، فأجزل له في الهدى والهجرة الثواب والرحمة، وجعل في ذريته من بعده النبوة والبيان والحكمة، وأعطاه برحمته وفضله اللهُ ربُ العالمين، ما سأله أن يجعله له من لسان صدق في الآخرين، فبقي في الغابرين بالصالحات ذِكرُه، وآتاه بذلك في الدنيا أجره، كما قال أرحم الراحمين: ? وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ? [العنكبوت: 27]. فنسأل الله الذي أجزل له في الدنيا والآخرة من الخير أن يجعلنا، له برحمته من صالح الأبناء، وأن يهبنا بطاعته له وعبادته، شكرَ ما أنعم به علينا من ولادته.
تم الكتاب بحمد الله العزيز الوهاب فله الحمد كثيرا، وله الشكر بكرة وأصيلا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(2/60)


تثبيت الإمامة
[مبدأ التفضيل]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله فاطر السموات والأرض، مفضل بعض مفطور خلقه على بعض، بلوى منه تعالى للمُفَضَّلِيْن بشكره، واختبارا للمفضولين بما أراد في ذلك من أمره، ليزيد الشاكرين في الآخرة بشكرهم من تفضيله، وليذيق المفضولين لسخطٍ إن كان منهم في ذلك من تنكيله، ابتداء في ذلك للفاضلين بفضله، وفعلا فعله بالمفضولين عن عدله، يقول الله جل ثناؤه، وتباركت بقدسه أسمآؤه، ? لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون ? [الانبياء: 23]. وقال :?وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ? [القصص: 68]. ويقول تعالى :? وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ? [الأنعام: 165]. ويقول تبارك وتعالى :? انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ? [الإسراء: 21]. ويقول سبحانه :? أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ? [الزخرف: 32]. وقال تعالى :? ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ? [الإسراء: 70]. وقال تبارك وتعالى :? وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ? [الجاثية: 13]. ويقول سبحانه :? وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ? [النحل: 12]. والحمد لله رب العالمين، الذي جعلنا من أبناء المرسلين، الذين اختصهم بصفوة تفضيل المفضلين، ونستعين مبتدئ الخيرات، وولي كل حسنة من الحسنات، على واجب شكره، وكريم أثره، فيما أبتدأ به من فضله، وخص به من ولادة رسله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه توكلنا وهو رب العرش الكريم .(2/61)


[وجوب الإمامة ودليلها]
سألت يرحمك الله عن الإمامة ووجوبها، وما الدليل إن كانت واجبة على ملتمس مطلوبها، فأما وجوب الإمامة ودليله، فوحي كتاب الله عز وجل وتنزيله، فاسمع لسنته في الذين خلوا من قبلك تفهم، وتَفَهَّم متَقَدِّم أوليها عن الله تعلم، فإنه يقول عز وجل، ونحمده فيما نزل، من محكم كتابه :? سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ? [الأحزاب: 62]. ويقول تعالى :? كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ? [البقرة: 183]. وهذا يرحمك الله لكي تعتبر بمنزَلِ بيانه، في أشباه حكمه في الأمم واستنانه.
ثم أخبر تعالى عما جعل من الإمامة في بني إسرآئيل، قبل أن ينقل ما نقل منها إلى ولد إسماعيل، فقال :? ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرآئيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ? [السجدة: 23]. وقال سبحانه ـ ما أنور بيانه ! ـ فيما نزل من قصص خليله إبراهيم، وما خصه الله به في الإمامة من التقديم، وما كان من دعاء إبراهيم وطلبته ؛ لإبقائها من بعده في ذريته :? إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ? [البقرة: 124]، خبرا منه سبحانه أن عهده فيها إنما هو منهم للمتقين، فلم يزل ذلك مصرفا بينهم، لم يخرجه الله تعالى منهم، بعد وضعه له فيهم، وإنعامه به عليهم، حتى كان آخر مصيره في الرسالة ما صار إلى إمام الهدى محمد صلوات الله عليه، فكان خاتم النبيين، ومفتاح الأئمة المهتدين .(2/62)


ثم قال تعالى بعد هذا كله، دلالة على أن محمدا وارث خليله:? إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ? [آل عمران: 68]. فكان محمد الوارث من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام للنبوة، وإليه عليه السلام صار ما كان من إبراهيم وإسماعيل من الدعوة، إذ يقولان صلوات الله عليهما :? ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ? [البقرة: 29].
وأبينُ دليل، وأنور تنزيل، في وجوب الإمامة، وما يجب منها على الأمة، قول الله تبارك وتعالى :? أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ? [النساء: 59]. فأمر تبارك وتعالى بطاعة أولي الأمر مع ما أمر به من طاعته وطاعة الرسول، ولا يأمر تبارك وتعالى إلا بمعلوم غير مجهول، مع ما لا أعلم فيه بين الرواة فُرْقَة، وما لا أحسب إلا قد رأيتها عليه متفقه، من حديث الرسول عليه السلام في أن ( من مات لا إمام له مات ميتة جاهلية )، فكل هذا دليل على وجوب الإمامة وعقدها، وما في ذلك للأمة بعد رسولها صلوات الله عليه من رشدها، مع ما يجمع عليه جميع الأمم على اختلاف مللها وعقولها، وما هي عليه من الفُرقة البعيدة في أجناسها وأصولها، من تقديمها لمن يؤمها منها، ويذب مخوفَ ذِمار الأعداء عنها، ويحوط حرمها عليها، وينفذ حكم المصلحة فيها، ويكف سرف قويها عن ضعيفها، ويجري حكم قسط التدبير فيها في وضيعها وشريفها، استصلاحا منها بذلك للدنيا، والتماسا به لما فيه لها من البقيا.
فكيف يرحمك الله بطلاب، رضى رب الأرباب ؟! وحلول دار الخلد من الجنة، وملتمس حكم الكتاب والسنة، أيصلح أولئك أن يكونوا فوضى بغير إمام ؟! هيهات أبى الله ذلك لمنزَل الأحكام !(2/63)

98 / 201
ع
En
A+
A-