[المحكم والمتشابه]
وفيما نزل الله يا بني: من وحيه، بعد الذي بيَّن فيه من أمره ونهيه، متشابه باطن خفي، لا يتبين منه أبدا شي، جعله الله متشابها كذلك، ليس يعلمه أحد غير الله لذلك، وكيف وإن اجتهد أبدا، وأهدى ما في ذلك من الهدى، فهو العلم، بأنه لا يعلم، وهو للقول فيه، عند النظر إليه، ما ذكر الله سبحانه أنه قال: ? والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يتذكر إلا أولوا الألباب ? [آل عمران: 7]، فليس يعلم منه متشابه الآيات، إلا من علمه إياه رب السماوات، ومن كتاب، رب الأرباب، ما يُظن ويُتوهم، متشابها وهو محكم، إلا أنه قد دخل فيه بعض الوهم، على بعض من سمعه من أهل العلم، فإذا ثبت فيه، ودل عليه ، أسفر له وأنار، ووضح له وبان.
ومن ذلك ما ذكر أبو صالح عن الكلبي عن عمر بن الخطاب، أنه قال لابن عباس يوما من الأيام: ( يا أبا العباس ضربتني البارحة أمواج القرآن في آيتين قرأتهما، لم أعرف ما تأويلهما ؟
فقال ابن عباس: ما هما يا أمير المؤمنين ؟
قال:قوله ? وذا النون إذ ذهب مغاصبا فظن أن لن نقدر عليه ? [الأنبياء: 87]. فقلت: سبحان الله أيظن نبي من أنبياء الله أن الله لا يقدر عليه، أو أنه يفوته إن أراده، ما ظن هذا مؤمن ؟!
وقوله: ? حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا? [يوسف: 110]. فقلت: سبحان الله كيف هذا أيسَ الرسل من نصر الله، أو تظن أن قد كذب وعد الله ؟!! إن لهاتين الآيتين خبرا من التأويل ما فهمته ؟!!(2/54)


فقال ابن عباس: أما ظن يونس فإنه ظن لن تبلغ به خطيئته أن يُقَدِّر الله بها عليه العذاب، ولم يشك أن الله إن أراده قدر عليه، فهذا قوله: ? فظن أن لن نقدر عليه ?. وأما قوله: ? حتى إذا استيأس الرسل ?. فهو استيئاسهم من إيمان قومهم، وظنهم: فهو ظنهم لمن أعطاهم الرضى في العلانية، أنه قد كذَّبهم في السر، وذلك لطول البلاء عليهم، ولم تستيئس من نصر الله، ولم يظنوا أن الله قد أخلفهم ما وعدهم.
فقال عمر فرجت عني فرَّج الله عنك.
قال ابن عباس: فإن رجلا لقيني آنفا فقرأ علي قول الله: ? ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن ? [البقرة:222]. هو يقول حتى يطهرن بالماء، ? فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ? [البقرة: 222]، قبلا ودبرا، فقلت: كفى مَن ذَهَبَ إلى هذا التأويل كفرا!! إنما عنى الله تبارك وتعالى حتى يطهرن من الدم، فإذا تطهرَّن منه بالماء ? فأتوهن من حيث أمركم الله ? يعني طاهرات غير حُيَّض. فقال عمر: إن قريشا لتغبط بك يا بن عباس، بل جميع العرب، بل جميع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال خريم بن فاتك الأسدي:
ما كان يعلم هذا العلم من أحد .... بعد النبي سوى الحبر ابن عباس
من ذا يفرج عنكم كل معظلة .... إن صار رسما مقيما بين أرماس
مستنبط العلم غضا من معادنه .... هذا اليقين وما بالحق من باس
وصدق لعمري عمر بن الخطاب إن الأمة لتغبط بأن يكون فيها ومنها، من يجادل أهل الإلحاد في تنزيل الله والكفر بآيات الله سبحانه عنها.(2/55)


ولفي مجادلة من ألحد وأبطل، أو جَهلَ بيان الكتاب فعطَّل، ما يقول الله سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله: ? ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ? [النحل: 125]. وفي مثل ذلك ما يقول رب العالمين، بعد رسوله عليه السلام للمؤمنين: ? ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم ? [العنكبوت: 46]، ذلك لما جعل الله في المجادلة لمن ظلم بالحجة من الدفاع عنهم.(2/56)


ولفي ذلك والحمد لله قديما، وإذا كانت الحجة في الله صراطا مستقيما، ما يقول سبحانه: ? ألم تر إلى الذي حآج إبراهيم في ربه، أن آتاه الله الملك، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، ـ فـ ـ قال ـ الملك ـ أنا أحيي وأميت ? [البقرة: 258]. يريد الملك بقوله: أميت وأحيي، أني أقتل من أردت وأحيي وأخلي، فلما - حآج إبراهيم الملك بحجته في ربه، ودعاه بدليل الحياة والموت إلا ما دعاه الله إليه من المعرفة به، فلم يقر الملك بما عرف، وأنكر وكابر وعسف - احتج إبراهيم صلى الله عليه، من الحجة بما لا دعوى له فيه، من إتيان الله بالشمس من مشرقها، فقطعه إبراهيم بحجة الله ووحيها، ثم زاد الحجة عليه تأكيدا، وقولَ إبراهيم بحجة الله تثبيتا وتسديدا، قولُه: ? فأت بها من المغرب ? [البقرة: 258]. فلما حآجه من الحجة بما يغلب كل مغالب، كما قال سبحانه:? فبهت الذي كفر ? [البقرة: 258]. وقطعت عليه بحجة الله حجته فيما أنكر، ولم يجد عندها مقالا، وكذلك يفعل الله بمن كان عن الهدى ضآلا، كما قال في أمثاله رب العالمين: ? والله لا يهدي القوم الظالمين ? [البقرة: 258]. ولقد كان في قول إبراهيم ـ صلى الله عليه وآله: ? ربي الذي يحيي ويميت ?. وتيقن الملك أنه سيموت ـ ما أغنى كثيرا وكفى، لو كان الملك بما يعرف مقرا معترفا، لأن الحياة والموت فعلان موجودان، وصنعان لا شك في أنهما من الصانع معدودان، لا ينكر ما قلنا به فيهما من ذلك سامع، ولا يدعي صنعهما ـ إلا بمكابرة من مدعيهما ـ صانع، وإذا صحَّا وثبتا صنعًا وفعلا، وكان الملك وغيره عليهما مجبورا محتبلا، ليس لأحد فيهما صنع، ولا يمتنع منهما ممتنع، فلا بد باضطرار من صانعهما وفاعلهما، ومتولي صنعهما واحتبالهما، إذا ثبتا صنعا وفعلا، وكان كل واحد مهما بدعا محتبلا . ولكفى بحجة - إبراهيم صلى الله عليه وسلم بالموت، إذ لا يقدر أحد منه على فوت - حجةً وبرهانا ودليلا، وللمعرفة بالله منهجا وسبيلا، فكيف بما(2/57)


مع ذلك من دلائل الله وشواهده ؟! وبرهان معرفة الله الذي لا يقدر أحد على معدوده ؟!!
وفي محآجة إبراهيم عليه السلام لقومه، ما سمعتموه في كتاب الله عز وجل من قوله، عندما رآه من ملكوت السموات والأرض، وما دلَّه الله به من بعض ذلك على بعض، إذ يقول سبحانه: ? وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين، فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ? [الأنعام: 75 – 76]. فقال مقيما لقومه وموقِّفا، ومحتجا عليهم من الله ومعِّرفا، لا معتقدا لآلهتهم ولا ممتريا، ولا شآكا فيها ولا عمِيًّا، قال الله تبارك وتعالى: ? فلما أفل قال لا أحب الآفلين ? [الأنعام: 76].وكذلك قوله عليه السلام: ? فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي، فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضآلين ? [الأنعام: 77]. يقول صلى الله عليه لهم: لئن لم يهدني ربي ويرفعني عنكم، لأكونن ضآلا مثلكم ومنكم، فلما وقَّفهم على الحجة مفاوهة، وأثبتها لهم فوقَّفهم مواجهة: ? قال يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ? [الأنعام: 78 – 79].(2/58)

97 / 201
ع
En
A+
A-