وقد ينسخ الله إلقاء الشيطان، فيما ينزله الله من وحي وقرآن، بذكره له عنه، وتبيين ما كان فيه منه، فإذا ذكر الله ذلك كله، وعرَّفه جل ثناؤه مَنْ جهله، نفاه من وحيه فأبطله، فنقي تنزيل الله من ذلك بإحكام الله له وَتَبرَّا، من كل وهن وتناقض عند من يبصر بعينِ فكرهِ ويرى، كقوله سبحانه: ? وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ? [الحج: 52]. وتأويل ألقى في أمنيته: إنما هو إلقاء في قرآءته وتلاوته، وليس ذلك كما يقول مَن جهلَه من العامة إنه يلقيه - على اللسان، فينطق به من رسول أو نبي - شيطان، ولم يجعل الله سبحانه على رسول ولا نبي للشيطان، مثلَ ذلك التمكن والقدرة والسلطان، كيف والله تبارك وتعالى يقول: ? وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم، إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ? [النحل: 88 – 90]. وفي مثل ما قلنا ما يقول رب العالمين: ? إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ? [الحجر: 42].(2/39)


[خرافة الغرانيق]
وجهلة العامة يزعمون أن الشيطان ألقى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتمنى ويقرأ: أذكُرْ آلهةَ قريش من اللات والعزى، فقرأ في ذكرها: ( وإن تلك لهي الغرانيق العلى، وإن شفاعتها عند الله لترتجى )، هذا لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظنةً ولا توهمةً، فضلا أن يثبت عليه صلى الله عليه وآله وسلم قوله أو ظنه، وهذا ومثله، وما كان نظيرا له، فإذا ألقي في تنزيل الله ووحيه، أو أمرِ الله ونهيه، نسخه الله فنفاه، وأبطله ونحَّاه، والله سبحانه لا يبطل ولا ينفي وحيه بنسخه وتبديله، وإن صرفه فزاد أو نقض من الفرض في تنزيله، كقوله سبحانه: ? وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون، قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ? [النحل: 101 – 102]. فكل أمر الله ونهيه هدى ورحمة، ومَنٌّ مِن الله على خلقه ونعمة، فكذلك أمر النسخ والتبديل، وما ذكر منهما جميعا في التنزيل.(2/40)


[أقسام النسخ]
ومن الناسخ والمنسوخ فاعلموه ما كان يزاد به في الفرض تكليفا، أو ينقص به منه رحمة من الله فيه وتخفيفا، وفي ذلك كله، بمنِّ الله وفضله، من البركة والرفق، ومن الرحمة بحسن السياسة والتدبير للخلق، ما لا يستتر ولا يخفى، إلا على من جهل وجفا، كالوصية التي أُمرَ بها من ترك خيرا عند الموت للوالدين والأقربين بالمعروف، ثم زيد فيما أمر به من ذلك ما هو أكثر التوارث بحد مسمى موصوف، من سدس وثلث وربع، في مفترق من المواريث ومجتمع، كرجل ترك ابنه وأبويه، فلكل واحد من الأبوين السدس لا يزاد عليه، فإن تركهما وزوجة، كان لها الربع فريضة، وللأم ثلث ما يبقى وهو الربع من جميع المال، وكذلك ما سمى من مواريث الأقربين في مختلفات الأحوال.
وكما أمر به من صلاة ركعتين في الحضر والسفر، ثم زيد في فرضها فجعلت أربعا في الحضر، وكقوله في التخفيف، والوضع لرحمته من التكليف، : ? الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ? [الأنفال: 66]. فنقص ووضع من ذلك عنهم فرضا كان موظَّفا، وأشياء كثيرة لما تسمع وترى، في أمور جمة لا يحصيها كتابنا أخرى.
فهذه وجوه من الزيادة والتخفيف في الفرض، لا يشك مَن يعقل في أن بعضها من بعض، ليس في شيء منها اختلاف ولا تناقض ولا بداء، كما زعم من كان في كتاب الله وأحكامه ملحدا، بل كلها بمنِّ الله مؤتلف متقن، وجميعها فمصدِّق بعضه لبعض محقِّق، ليس فيها - والحمد لله - لأحد مقال، يلحد به فيه إلا مفتر بطَّال.(2/41)


ومن ذلك ما يذكر عن الإنجيل وفيه، من قول عيس صلى الله عليه: ( إني لم آتكم بخلع التوراة ولا بخلافها، ولم أبعث إليكم لنقض شيء مما جآءت به الرسل من وظائفها، ولكني جئت لذلك كله مثبتا، ولما أماته ذلك كله مميتا، وبحق أقول لكم: إنه لن يُبيد الله وصيته حتى تبيد وتنتقض، السماوات والأرض، وقد قيل لكم في التوراة: لا تقتلوا النفس المحرمة، ومن قتلها فإن الله يدخله جهنم المحرقة، وأنا أقول لكم: إن من قال لأخيه شتما يا رغل ـ والأرغل هو الذي لم يختتن ـ فإن له في الآخرة بشتم أخيه نار جهنم ) وهذا فمن زيادة الفرض وتوكيده، ومن رحمة الله للعباد في حكمه وتسديده، وكل ذلك فهدى من الله للعباد ورشد، وكل ذلك فقد يجب به لله على عباده الشكر والحمد.
ومن ذلك قول عيسى صلى الله عليه في التنزيل، لمن بعثه الله إليه من بني إسرائيل: ? ولأحل لكم بعض الذي حُرِّم عليكم ? [آل عمران: 50]. وقول الله سبحانه لأهل الكتاب: ? النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ? [الأعراف: 157].
ومن ذلك وبيانه، قوله سبحانه: ? فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ? [النساء: 160]، فجعل تحريمه عليهم بعض ما حرم بعد الإحلال، من العقاب لهم بظلمهم وعداوتهم والنكال، فهذا ومثله، وما كان مشبها له، فمن زيادة فرضه تأكيدا وتثقيلا، وعقابا به لمن ظلم من عباده وتنكيلا، وليس في شيء من هذا كله، ولا من تخفيف الفرض فيه ولا من تثقيله، تناقض بحمد الله، في حكم من أحكام الله، ولا بداء ولا تعقيب ولا اختلاف، عند من له بحكمه وفضله اعتراف .(2/42)


ومن لم يكن بالحكمة مقرا معترفا، لم يكن إلا عميا معتسفا، ومن كان معتسفا عميا، لم يكن في حقائق الأمور مهتديا، ومن عمى وفارق الهدى، كان للبهائم مثلا وندا، كما قال الله سبحانه: ? أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا ? [الفرقان: 44]، وصدق الله لا شريك له فيما قال به فيهم تشبيها وتمثيلا، لهم من البهائم ضلالا، وأقل في الهدى دركا ومثالا، لأن الأنعام وإن ضلت عن الهدى في الدين، ولم تدرك شيئا إلا بحآسة من عين أو غير عين، فهي مدركة لما ينفعها وما يضرها من المرعى، وليس كذلك الضآلون من أهل العمى، لأن من عمي في الدين كان أخذه لما يضره فيه أكثر من أخذه لما ينفعه، وكان ما رآه منه وسمعه كما لم يره ولم يسمعه، كما قال الله سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وآله: ? وإن تدعهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ? [الأعراف: 198]، فكفى بهذا فيهم دليلا على ما مثَّلهم به سبحانه لقوم يفقهون.
ألا ترون أن البهيمة تجانب ضرها في معاشها وتأخذ نفعها، وتحسن لصالح مرتعها من المراتع الصالحة تتبعها، فمن ضل في الدين فهو أعظم ضلالا منها، وهو فمقصر صاغر في العلم عنها، فكتاب الله بريء كله من الوَهَن والتداحض، نقيٌ في الألباب من كل اختلاف وتناقض، واضح عند أهله مضيء الايضاح، بأضوأ في أنفسهم من وضح الايضاح.
ونسخ ما نسخ منه وإبداله، فمن آيات الله فيه جل جلاله، لا يأبى ذلك فيه ولا يدفعه، إلا من لا يفهم الكتاب ولا يسمعه، إلا بإذنه لا بنفسه، فأما من سمعه بيقين قلبه ولبه، فهو مؤمن بأنه من آيات ربه، لما بيَّنا من ذلك وذكرنا، وأوضحنا فيه ونوَّرنا، والحمد لله على ما فصَّل من الآيات، وبين برحمته من الرشد والهدايات.(2/43)

94 / 201
ع
En
A+
A-