الناسخ والمنسوخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحسنُ الكلمِ كلامه، وأعدل الحكم في الأمور كلها أحكامه، فحكمه أفضل الفضول، وقوله فأنور القول، وعلى قدر بُعده من الخلق في التعالي والجلال، بَعُدَ منهم فيما حكم به وقاله من المقال، فكان قوله نورا وهدى وروحا، وحكمه كله مصلحا مشروحا، فلن يدخل قوله عوج ولا أَوَد، ولن يلم به جور ولا ظلم مفند، كله رشد ونور وحياة، وهدى وبر ومصلحة ونجاة، فمن حيي بروحه في الدنيا لم يمت فيها بضلاله أبدا، ومن قارنه في دنياه قارنه في آخرته فوزا مخلدا.(2/34)
نزل الله لرحمته به كتابا وفرقانا، وبيَّن تنزيله كل شيء تبيانا، كما قال سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وآله : ? ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ? [النمل: 89]، فليس بعد قوله:? تبيانا وهدى ورحمة وبشرى ? فاقةٌ ولا حاجة في شيء منهن للمؤمنين. وكل ما نزل الله سبحانه من ذلك في القرآن، وفصَّل به وفيه من التبيان، فقولٌ منه - لا إله إلا هو - لا كالأقوال، ذو بهجة ونور وحياة وبهاء وجلال، وكلام بان عنه سبحانه بصوت لا كالأصوات، صوت كريم لا يحله مصنوع اللهوات، ولم يقطعه عواجز الأفواه، ولم يخرج من بين جوانح وشفاه، ولو أنه من تلك كان، وعنها من الله بان، لكان لما كان من مثل ذلك مثلا وكفيا، ولما كان كما جعله الله نورا وحيا، حتى يُهدى بنوره مِن ظلم الضلالة، ويحيى بروحه مَن مات من أهل الجهالة، حتى يُرى بعد موته - لإحيائه له - حيا، وحتى يمشي به مَن هَداه مبصرا بعد أن كان عميا، قال الله سبحانه: ? أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكفرين ما كانوا يعملون ? [الأنعام: 122]، وقال سبحانه: ? وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ? [الشورى: 52 – 53]. فنور كتاب الله زاهر مضيء يتلألا، وما جعل الله به من الحياة فحياة لا تبيد أبدا ولا تبلى.(2/35)
فتبارك الله الذي نزل الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما، بل جعله كما قال سبحانه كتابا مضيا مفصلا مكتملا : ? كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ? [فصلت: 42]، فكان في إحكامه لآياته وتكريمه له وإجادته فوق كل محكم ومجيد، كما قال سبحانه: ? بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ? [البروج: 21 – 22]، فهو خير ما وعظ به واعظ واتعظ به موعوظ.
والحفظ في هذه الآية واللوح، فهو الأمر المثبت اليقين المشروح، والمجيد فقد يكون المتقن المحكم، ويكون العزيز العظيم المكرم، كما قال الله سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وآله: ? ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ? [الحجر: 78]، فهو كما قال الله جل ثناؤه العظيم.
وفي تكريم الله له ما يقول تبارك وتعالى: ? وإنه لقرآن كريم ? [الواقعة: 76]، وفي حكمة كتاب الله ما يقول سبحانه: ? ألر تلك آيات الكتاب الحكيم ? [يونس: 1]، وفيه ما يقول جل جلاله: ? وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ? [النمل: 6].(2/36)
فكتاب الله بمنِّ الله بيِّن يلوح، مبين باهر مشروح، عند من وهبه الله علمه، وفهَّمه آياته وحكمه، لما وصل به من نوره، وفصَّل فيه من أموره، مقدَّما ومؤَّخرا، وأمرا ومزدجرا، وناسخا ومنسوخا مبدلا، نعمة ورحمة وفضلا، تصريفا فيه كما قال سبحانه للآيات والأمثال، وزيادة به في المن والنعمة والإفضال: ? ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل وكان الانسان أكثر شيء جدلا ? [الكهف: 54]، وقال سبحانه ضاربا ومصرفا وممثلا: ? ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون، قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ? [الزمر: 27 – 28]. وقال سبحانه: ? ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها، ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ? [البقرة: 106]، فتبديل الآيات ونسخها وإنشاؤها فهو تفهيم من الله للسامعين وتذكير، عن غير نقض ولا تبديل، سخطٍ بحكم من أحكامه في التنزيل، لأنه لا معقب - كما قال - لحكمه وفصله، ولا مبدل لشيء من كلماته وقوله.
وفي ذلك ما يقول جل جلاله، عن أن يتناقض في شيء من حكمه [وقوله]، ? والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ? [الرعد: 41]، ويقول تبارك وتعالى في أهل الكتاب:? والذين أوتوا الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين، وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ? [الأنعام: 114 – 115]. وبما بدل من الآيات في القول لا في المعنى ولا في حكم الله المحكم [الحكيم]، وفيما نسخ بالقول المبدل، في كتاب الله المنزل، تثبيتا من الله له وتصريفا، ورحمة منه وتعريفا، ما هلك عبد الله بن سعد بن أبي سرح، إذ لم يَبِنْ له ما قلنا به من ذلك ولم يصح، أيام كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله، فاختلف عنده بعضه في القول والمعنى فيما اختلف منه واحد لا يختلف، وإن كان القول به قد يتسع وينصرف، فلما عسف فيه النظر، ارتد عن الاسلام وكفر.(2/37)
فعلمُ الناسخ والمنسوخ والمبدل، عصمة لأهله فيه من الهلكة والجهل، ونسخ الآية - هداكم الله - وتبديلها، فقد يكون تصريفها بالايضاح والتبيين وتنقيلها، لتبين في عينها، بإيضاحها وتبيينها، لا نسخ بقصر ولا وهم ولا اختلاف، ولا تبديل بَدَا ولا تعقب ولا اعتساف، وكيف والله يقول سبحانه: ? لا مبدل لكلماته? [الأنعام: 34، 115، والكهف: 27] . ويقول تبارك وتعالى: ? لا معقب لحكمه ? [الرعد: 41ٍ]. ويقول: ? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ? [النساء: 82]، فكفى بهذا فيما قلنا به هداية ودلالة وتعريفا والحمد لله وتبصيرا.
ولو كان التبديل للآية والنسخ لها هو غيرها، لكانت إذاً الآيات منسوخة مبدلة كلها، فالنسخ للآية والابدال، ليس هو الافناء للآية والابطال، لأن الآية لو أُفنيت وأُبطلت، إذا نُسخت وبُدِّلت، لما قيل: بدلت ونُسخت، ولقيل أُبطلت الآية وأُفنيت، وأُبدلت آية أخرى غيرها وأُنشئت !! ألا ترى أن الآية لا تكون مبدلة ولا منسوخة، إلا وعينها قائمة بعدُ موجودة، لم تفن وإن بُدلت ولم تبطل، وإن بطل وفني بعض صفات المبدل، أولا ترى أنك لو نسخت شيا، لم يكن نسخك له مفنيا، ولم تكن له ناسخا أبدا، إلا بأن ترده بعينه ردا، فإن جئت بضده وغيره، لم تكن ناسخا له بعينه، فالآيات كلها أمثال وأخبار، وأمرٌ من الله جل ثناؤه وازدجار، وذلك كله من الله في أنه حق وصدق واحد غير مختلف، ولا متفاوت وإن نُسخ وبُدِّل وصُرِّف، بالنسخ له، والتبديل ونقل كله، أمر من الله ونهي، وتنزيل من الله ووحي.(2/38)