وكتاب الله فهو الذكر الحكيم، والقرآن المكرم العظيم، فمن أين يدخل عليه مع حفظ الله له ضياع ؟ أو يصح في ذلك لمن رواه عن أحدٍ من الصالحين سماع، مع ما كان لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله من الأصحاب، وكان عليه أكثرهم من المعرفة بالخط والكتاب، إن هذا من الافتراء لعجب عجيب، لا يقبله مهتد من الخلق ولا مصيب . فنعوذ بالله من الجهل والعمى، ونسأله أن يهب لنا بكتابه علماً، ويجعله لنا في كل ظلمة مظلمةٍ سراجاً مضياً، ومن كل غُلَّةٍ معطشةٍ شفاءاً وريَّا، فقد جعله رياً من الظمأ لمن كان ظمياً، وضياءاً من العمى لمن كان جاهلاً عميّاً، فهوا البصر المضيء الذي لا يعمى، والرَّيّ الرَّوِي الذي لا يظمأ، فمن رَوِيَ به من الصدى بإذن الله ارتوى، ومن أبصر ما فيه من الهدى سلم أن يضل أو يغوى، بل هو سراج السُّرُج، وحججه فأبلغ الحجج، كما قال الله ذو الحجج البوالغ، والحق المبين الغالب الدامغ : ?قُلْ فَللهِ الحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِيْنَ? [الأنعام: 149]. وقال سبحانه: ?بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُوْنَ? [الأنبياء: 18]. فمن عمي عن حججه فلن يبصر، ومن حآجَّ بغيره فلن يظفر، ومن ضل عنه عظم ضلاله، ومن قال بخلافه كذب مقاله، ضياء سراجه ووحيه ساطع لائح، وعزمٌ أمرُه ونهيهُ رحمة من الله ونصائح.(2/14)


فيه قصص الأمم والقرون، وتفصيل الحكم كله والشئون، يخبر عن السماء والأرض وابتدائهما، وعن الجنة والنار وأنبائهما، وعما فطر من الجن والإنس، وخلق من كل بَدِن ونفس، بأخبار ظاهرة جلية، وأُخَر باطنةٍ خفية، إلاَّ عمَّنْ خصَّه الله بمستورها، وأطلعه بمنِّه على خفيِّ أمورها، فعنده منها، ومن الخبر عنها، عجائب كثيرة لا تحصى، وعلوم جمَّة لا تستقصى، فهو ينظر إليها ويراها، بغير قلب منه يرعاها، فلا يخفى عنه مِمَّا أظهر الله به منها خافية، وموهبةُ الله له في نفسه بعلمها من كل علم فكافية، فإن شاء أن ينطق فيها نطق، فأحقَّ في خَبرِه عنها فَصَدَق، وكان بها وفيها أصدق قائل، وإن سكت عنها سكت غير جاهل، فهو لعلومها قرين، وعلى مكنونها أمين، إن ذُكِّر منها بآية رعاها، أو سمعها عن الله وعاها، لا تصمّ عنها له أذن ولا يقين، ولا تعمى عنها منه فكرة ولا عين، فهو ينظر إلى ما أرته بيقين قلبه عياناً، كما قال سبحانه: ?وَالَّذِيْنَ إِذَا ذُكِّرُوْا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمَّاً وَعُمْيَاناً? [الفرقان: 73].(2/15)


ليس بمنِّ الله عليه، ولا مع إحسان الله إليه، بمستكبر عليها، ولا بمصرٍّّ فيها، فيكون كمن ذكره الله فيها بإصراره، وإعراضه عنها واستكباره، فقال سبحانه: ?وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيْمٍ، يَسْمَعُ آيَاتِ اللهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبِشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيْمٍ، وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيئاً اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِيْنٌ? [الجاثية: 7 ـ 9]. ولا كمن ذُكِّر بآيات الله فأعرض عنها وظلم، ولم يعلم عن الله منها ما علم، كما قال تبارك وتعالى: ?وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوْبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوْهُ وَفِيْ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوْا إِذاً أَبَداً? [الكهف : 57]، بل وهبه برحمته وَمنِّه وفضله قبول ما جاءت به آيات الله من النور والهدى، فسمعها عن الله بأذن منه واعية، وعلمها من الله بنفس في علمها ساعية، ثم لم يمنعها من أهلها فيأثم، ولم يضعها في غير موضعها فيظلم، كما قال الله لرسوله، صلى الله عليه وعلى أهله: ?وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِيْنَ يُؤْمِنُوْنَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّه مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ، وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِيْنَ سَبِيْلُ الْمُجْرِمِيْن? [الأنعام :54 ـ 55]، ففصل تبارك وتعالى آياته وبيَّنها لمن يستحق تفصيلها وبيانها من المؤمنين.(2/16)


[المعرضون عن الذكر]
وقال تبارك وتعالى فيمن أعرض عن ذكره بعد قيام حجته وطغى وتعدى: ?فَأَعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيْلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى? [النجم: 30].
وكما قال عيسى بن مريم، صلى الله عليه وسلم: (( لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم، ولا تبذلوها لمن لا يستأهلها فتظلموها، ولا تطرحوا كرائم الدُّر بين الخنازير فيقذروها)).
وكما قيل للمتكلمبالحكمة عند من لا يعقلها، ويؤثرها فيقبلها، كالمغني عند رؤوس الموتى، وكذلك من أمات الله قلبه عن آياته، فلم يقبلها هلكةً وموتاً .
وكما ذكر عن يحيى بن زكريا صلى الله عليه: أنه سارت طائفة من الزنادقة وأبنائها إليه، يريدون تطهرته ومسألته تعنتاً وتمرداً، فقال لهم إذ علم أنهم لا يريدون بمسألته الرشد والهدى، عندما طلبوا من ذلك إليه: يا أبناء الأفاعي، ائتوا بثمرةٍ تصلح للتَّطهر والتَّزكِّي، وأبى صلى الله عليه أن يطهرهم، إذ عرف كفرهم وأَمْرَهم، فكتاب الله أولى ما أُعز وأُكرم، إلا عَمَّن آمن بالله واستسلم، فأما من أعرض عنه وتمرد عليه، فحقيق بأن لا يعلم بسرٍ من أسرار حكمة الله فيه.(2/17)


ومن قبل مصير كتب الله إلينا، ومَنِّ الله بتنزيله علينا، ما صار من الله إلى السماوات ودار بين أكنافها، وشهد بترتيله من ملائكة الله جميع أصنافها. ومِن قبل منِّه علينا به مَنَّ على الملائكة بعلمه، وما وهبهم من سماع حكمه، وفي ذلك من شهادتها وبيانه، وما نزل الله منه في فرقانه، ما يقول سبحانه: ?لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَه بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُوْنَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيْداً? [النساء: 166]، فكفى بهذا الحكم لكتاب الله والحمد لله تبييناً وتوكيداً، وفيه حجة وبياناً، وعليه دلالة وبرهاناً، فأين يُتاهُ بمن غفل عنه ؟!! وهل يجد واجد أبداً خلفاً منه ؟!.
كلا لن يجده، ولو جَهِدَه جُهدَه ! نزل به من الله سبحانه روح القدس، شفاءًا من المؤمنين لكل نفس، فزادهم به إلى إيمانهم إيماناً، ووهبهم به بصيرة وإيقاناً، وجعله الله عمىً ورجساً، لمن كان عمياً نجساً، كما قال سبحانه: ?وَإِذَا ما أُنْزِلِتْ سُوْرَةٌ فِمِنْهُمْ مَنْ يَقُوْلُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيْمَاناً، فَأَمَّا الَّذِيْنَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيْمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُوْنَ، وَأَمَّا الَّذِيْنَ فِيْ قُلُوْبِهِم مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوْا وَهُمْ كَافِرونَ? [التوبة : 124- 125]. فجعله الله لأعدائه ولمن لم يقبله وعَمِي عنه رجساً وتباراً، كما قال سبحانه: ?وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَلاَ يَزِيْدُ الظَّالِمِيْنَ إِلاَّ خَسَاراً? [الإسراء: 82].(2/18)

89 / 201
ع
En
A+
A-