[القرآن عظة ونور]
وفيما في تنزيل الله من الموعظة والنور، وما جعله عليه من الشفاء لما في الصدور، ما يقول سبحانه: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَبِّكِمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُوْرِ وَهُدَى وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِيْنَ? [التوبة: 14]، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم إلى ما فيه من الهدى والنور من المهتدين.
وفي تبيين ما نزَّل الله في كتابه من الآيات، وجعل فيه من المواعظ الشافيات، لمن قَبِلَه وفهمه عن الله جل جلاله، من عباده البررة المتقين الأتقين ما يقول سبحانه: ?وَلَقَدْ أَنزْلَنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاَ مِنَ الَّذِيْنَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً للْمُتَّقِيْنَ، اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُوْرِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيْهَا مِصِبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌ يُوْقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُوْنَةٍ لاَ شَرْقِيَّة ولاَ غَرْبِيَّة يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُوْرٍ يَّهْدِيْ اللهُ لِنُوْرِهِ مَنْ يَّشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ? [النور: 34 ـ 35]. فمثَّلَ سبحانه ما في كتابه من نوره وهداه، وما وهب - من تبيينه فيه برحمته - أولياه، بمشكاة قد ملئت نوراً بمصباح في زجاجة نقية ككوكبدريٍّ، ومثَّلَ كتابه بما فيه من هداه بنور مصباحٍ زاهرٍ مضيٍّ، قد نقيا من كل ظلمة وغلس، وصفيا من كل كدرٍ ونجسٍ، فأعلمنا سبحانه بأنه هو نور السماوات والأرض ومن فيهما، إذ هو الهادي لِكُلِّ من اهتدى من أهليهما.(2/4)
وقد قيل في التفسير: إن المشكاة هي الكوة، التي يجمع ما فيها كما يجمع ما فيه السقا والشكوة، فنور هدى كتاب الله محفوظ بالله مجتمع، وكل من وفقه الله لرشده فهو لأمر الله كله فيه متبع، لا يسوغ لأحدٍ عند الله من خلافه سائغ، ولا يزيغ عن حكم من أحكام الله فيه إلا زائع، يُزِيْغُ اللهُ قلبَه بزيغه عنه، ويفارق من الهدى بقدر ما فارق منه، كما قال علام الغيوب: وخلاَّق ما ضل واهتدى من القلوب: ?فَلَمَّا زَاغُوْا أَزَاغَ اللهُ قُلَوْبَهُمْ واللهُ لاَ يَهْدِيْ الْقَوْمَ الْفَاسِقِيْنَ? [الصف: 5].(2/5)
[القرآن الحكم الفصل]
وفيما جعل الله في كتابه من الحكم والفرقان والفصل، ما يقول الله تبارك وتعالى:?إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بالْهَزْلِ? [الطارق: 12 ـ 13]. والفصل فهو الحكم الجد الرشيد، والهزل فهو اللعب والكذب والتفنيد، وفي ذلك ومثله، وما نزل الله فيه من فصله، ما يقول سبحانه: ?تَبَارَكَ الَّذِيْ نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُوْنَ لِلْعَالِمِيْنَ نَذِيْراً? [الفرقان: 1].
والفرقان فهو: التفصيل من الله فيه لرشده. فمن لم يرشد بكتاب الله فلا رشد، ومن ابتعد عن كتاب الله فَبَعُدَ، كما بعدت عاد وثمود، ومن لم يهتد في أمره بكتاب الله وتنزيله، لم يهتد بغيره للحق أبداً ولا لسبيله، بل لن يبصر ولن يرَى، للحق عيناً ولا أثراً، ولا يزال - ما لم يراجعه – متحيراً ضالاً، ومعتقداً – ما بقي كذلك - حيرةً وضلالاً، يُعد نفعاً له ما يضره، وثقةً عنده أبداً مَن يغرُّه، مرحاً لهلكته فرحاً، يرى غشه له بِرَاً ونصحاً، يخبط بنفسه كل ظلمة وعشواء، متبعا في دينه وأمره كله لما يهوى، إن قال مبتدياً عسَّف، أو حكى عن غيره حرَّف، افتراءًا وبهتاناً، وقسوة ونسياناً، أثرة منه للباطل على الحق، ونقضاً لما عقد عليه من العهد والموثق، كما قال الله سبحانه: ?فِبِمَا نَقْضِهِمْ مِيْثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوْبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُوْنَ الْكَلِمَ عَنْ مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظَّا مِمَّا ذُكِّرُوْا بِهِ، وَلاَ تَزَالُ تَطِّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيْلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِيْنَ? [المائدة: 13].(2/6)
فالويل كل الويل لمن لم يكتف في أموره وأمور غيره بتنزيل رب العالمين، كيف عظم ضلاله وغيه ؟! وضلت أعماله وسعيه، فَيَحْسبُه محسناً وهو مسيء، ورشيداً في أمره وهو غوي، كما قال سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى أهله: ?قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِيْنَ أَعْمَالاً، الَّذِيْنَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِيْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحسْبُوْنَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُوْنَ صُنْعاً? [الكهف: 103 ـ 104]، أفليس هذا هو الذي ظن والله المستعان ضُرَّهُ لَه نفعاً ؟! وحسب ضلالته هدى، وهدايته إلى الجنة ردى، كما قال سبحانه: ?وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِيْنٌ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّوْنَهُمْ عَنِ السَّبِيْلِ، وَيَحْسَبُوْنَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُوْنَ? [الزخرف: 36 ـ 37].
وفي القرآن وأمره، وما عظَّم الله من قدره، ما يقول سبحانه: ?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِعَاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا للِنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُوْنَ? [الحشر: 21].
وفيه وفي خلاله، وما مَنَّ الله به من إنزاله، ما يقول تباركت أسماؤه لمن نزله عليهم كلهم جميعاً معاً: ?وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًاً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ للهِ الأَمْرُ جَمِيْعاً? [الرعد: 31].(2/7)
أو لم يسمع من آمن بالله سبحانه في آيات نزلها من الكتاب: ? هَذَا بَلاَغٌ لِلْنَّاسِ وَلْيُنْذَرُوا بِهِ وَليَعْلَمُوْا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَليَذَّكَرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ? [إبراهيم: 52]، وفي مثل ذلك بعينه، وفيما أنزل من تبيينه، ما يقول سبحانه: ?هَذَا بَيَانٌ لِلَنَّاسِ وَهُدَىً وَّمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِيْنَ? [آل عمران: 138]. ويقول سبحانه: ? وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِيْنَ ? [النحل: 89]. فجعله سبحانه تبياناً وحجة على من فسق وكفر، وهدى ورحمة وموعظة لمن اتقى وشكر.(2/8)