وليس أحد من هذه الفرق كلها التي وصفنا، وإن قالوا من مختلف الأقوال بما ألفنا، إلا مقر لا يناكر، ومعترف لا يكابر، أن الشمس والقمر يسلكان بأنفسهما، أو يسلك فلكهما بهما، فيما يرى من دورهما، ويعاين في كل حين من مرورهما، من تحت الأرض لا من فوقها، يعرف ذلك بغروب الشمس في كل يوم وشروقها، لا يسلكان يمينا ولا يسارا، ولا يختلف مسلكهما تحتها ليلا ولا نهارا، والشمس والقمر فجسمان، مدركة جسميتهما بالعيان، يذرعان ذرع الأجسام، وينقسمان بأبين الانقسام، لهما أوساط وأطراف، وفيهما كلٌ وأنصاف، والأرض فذات جسم مصمت معلوم، لا يمكن أن يسلكه جسم مثله من النجوم، ولا يمكن أن يسلك جسم إلا في هواء أو خلاء، أو فتق إن سلك في أرض أو ماء، أو في جو من الأجواء، وإن كان مسلكه من الأرض أو الماء، إنما يكون في فتق ففي الخلاء يسلك أو الهواء، وإن هو احتجب عن العيون فلم يُر . وإن كان مسلكه في فتق من أرض أو ماء، لا فيما قلنا به من هواء أو خلاء، انتقض ما أجمعوا عيانا عليه، واجتمعت أقوالهم جميعا فيه، من أن مسلك النجوم، من ورآء قاصية التخوم.(1/36)


وما جعل الله في الجبال الرواسي، وغيرها من القنان الشُّمَّخ الطوال العوالي، من فجاج السبل، ومن الطرق الذُّلُل، فما لا يَمتري ـ في وجود صنعه وتقديره، بما يرى فيه من إحكام الصنع وتدبيره ـ منصف أنصف في نظر لنفسه، قاضٍ على الأمور كلها بحقيقةِ دركِ حسِّه، لأنه قد أدرك بحسه دركا بتاً، وأيقن بقلبه إيقانا مُثبتا، أن أصغر ما يُرى من هذه الفجاج سبيلا، لم يتهيأ لسالكه سلوكه ولم يمكنه حتى ذُلِّلَ تذليلا، وأن هذه الفجاج التي جُعلت سبيلا، وهُيِّئت مع صعوبتها طرقا ذللا، لم تتأت وتتواطأ، سبلا وصُرطا، في حزون الجبال الشوامخ، وبطون البِيدان الرواسخ، إلا بقوة أيدٍ من قوي شديد، وتدبير رشيد من عزيز حميد، لا يؤوده حفظ شيء ولا صنعه، ولا يمتنع منه قوي وإن عز تمنُّعُه، ذلك الله العزيز الأقوى، ومن لا يماثل في شيء ولا يساوى، فيصعب عليه ما يصعب على الأمثال، من صنع فجاج رواسي الجبال، وما جعل فيها من السبل المسهلة، وما مَنَّ به في ذلك من النعم المفضلة، التي لا يمن بمثلها مآنٌّ، ولا يحتملها سوى إحسان الله إحسان، ولا يدعي المنة فيها مع الله أحد، ولا يقوم بها سوى مجد الله مجد.(1/37)


ومن ينكر إلا بمكابرة لنفسه، أو إكذاب لحقائق درك حسه، أن السماء جعلت كما قال الله سبحانه: ? سقفا محفوظا ? [الأنبياء:20]. وقد يعاين سمكها عيان عين مرفوعا، وآياتها من نجومها دائبة غروبا وطلوعا، ونرى السماء كما قال الله سبحانه محفوظة في مكانها ثابتة غير زائلة، ونرى الشمس والقمر وغيرهما من نجومها مقيمة على هيئة واحدة غير حائلة، ونعلم يقينا، ونوقن تبييناً، أنه مستنكر مدفوع، ومقَّبحٌ في اللب مشنوع، أن يُتَوهَّم حفظ مثل ما ذكرنا، ودوام ما قد عاينا وأبصرنا، دائما ثابتا مقيما، ومن البلاء والزوال سليما، إلا بحافظ عزيز، وحرز من الحفيظ حريز، لا تحيط به الملالات، ولا تلتبس به الغفلات، ذلك الله العزيز الحكيم، المقتدر العليم، ومن يشك فيما قال الله من إعراض الناس عن آيات السماء، وهم بكل ما فيها من آياتها أجهل الجهلاء، لا يعتبرون من عبرها بظاهر مقيم، لا ولا بسائر دائب مديم، لا يَنِي في مسيره ولا يفتر، يخفى في مسيره مرة ويظهر، مدبر لما يحث حثا، لا يحتمل غفلة ولا عبثا، في رجوع ولا مقام ولا مسير، ولا في شيء مما له من صنع ولا من تدبير.
ومن تنبيهه أيضا قوله تبارك وتعالى: ? أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت، وإلى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت ? [الغاشية 17- 20]. فَخلْق الإبل الذي هو صنعها فيه موجود، ورفع السماء معها معاين مشهود، ونصب الجبال أوتادا، وسطح الأرض مهادا، متيقن معلوم، ومعاين مفهوم، وهذه كلها فقد ثبتت صنعا، وثبت كل صنع بدعا، بما بان فيها، وشهد عليها، من دلائل الصنع وتدبيره، ومعالم البِدْعِ وتأثيره.(1/38)


فأين خالق الإبل وصانعها ؟! وممسك السماء ورافعها ؟! وناصب الجبال وموتدها ؟! وساطح الأرض وممهدها ؟! إذ لا بد اضطرارا لكل مصنوع من صانع، ولكل مرفوع من الأشياء كلها من رافع، ولكل منصوب موتد من ناصبه وموتده، ولا بد لكل مسطوح مُمَهدٍّ من ساطحه وممهده، ذلك الله رب العالمين، وصانع الصانعين، الذي جعل الأرض والإبل والجبال صنعا له مصنوعا، والسماء سقفا بحفظه له ثابتا محفوظا مرفوعا.
ومن توقيفه وتفهيمه، وتنبيهه وتعليمه، قوله سبحانه: ? أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها ? [النازعات 27 –33]. فلا بد في كل حس وعقل، لا عند مضرور بخبل، لكل بناء - غاب أو حضر - من بانيه، ولا بد لكل مرفوع ومسوَّى من رافعه ومسوِّيه، ولا بد لكل ليل مغطَش من مغطِشِه، كما لا بد لكل عرش معروش من معرِشه، ولا بد لإخراج الضحى، من مُخرِج وإن كان لا يرى، ولا بد لدحو الأرض من داحيها، لما تبيَّن من شواهد الدحو عليها، ولابد لمخرج المرعى والماء من مخرجه ومرعيه، ولا بد لما أرسي من الجبال من مرسيه، لما فيها بَيِّناً من علم كل مُرسَى، وإن كان هذا كله يدرك عقلا وحسا، فلا بد من صانع السماء وبانيها، ورافع سمكها ومسويها، ومغطش ليلها ومخرج ضحاها، ولابد ممن خلق الأرض ودحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، ومن نصب الجبال وأرساها، ثُمَّ لابد إذ لم يُوجِد ذلك شيئا مما وجد بالحوآس الخمس، ولا شيئا مما أُدرك بالعقول من كل نفس، أن يثبت بأثبت الثبت، وأَيقن اليقين البتِّ، أن صانع ذلك كله، ومن تولى فيه إحكام فعله، خلافٌ سبحانه لكل محسوس، ولكل ما يعقل من النفوس.(1/39)


[استدلال إبراهيم عليه السلام على الله]
ومن ذلك وفيه، ومن الدلائل عليه، قول إبراهيم عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، فيما دار بينه وبين قومه في الله من الجدال والخصام، قوله تعالى: ? يَا قَومِ مَا هَذِهِ التَّماثِيلُ الَّتيَِ أَنتم لها عاكفون ؟ قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين، قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين، قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ؟ قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين ? [الأنبياء 52-56]. فشهد صلى الله عليه شهادة الحق لله رب العالمين، ونبههم بشواهد الله ودلائله، بما قد يرونه رأي عين من صنعه وجعائله.
أو لا يعلم من يعمى ويجهل ؟! فضلا عمن يبصر ويعقل، أن لو كانت - هذه البدائع والأصول، وما تدركه منها عيانا العقول، على ما يقول به فيها الجاهلون أنها كانت وجاءت، كما أرادت وشاءت - لما فضل بعضها أبدا بعضا، ولما كانت الأرض سفلا وأرضا، ولما قَصُر أوضع الأشياء وأدناها، عن درجة أرفع الأشياء وأعلاها، ولكانت الأشياء جميعا سواء، ولما كان بعضها من بعض أقوى، حتى يكون كلها شيئا واحدا، وحتى لا يوجد شيء لشيء منها ضدا. وقد يوجد باليقين من تضآدها، ويتبين من صلاحها وفسادها، لكل حآسة من الحوآس الخمس . ومن سلمت له حوآسه من جميع الإنس، فقد يستدل بما يرى فيها من الاختلاف والنقائص، على أن لها صانعا خصها بما أبان فيها من الاختلاف والخصائص، بريء تبارك وتعالى من شبهها في النقص والاختلاف، متعال عما يوجد فيها أو في واحد منها من الأوصاف. فدل سبحانه على صنعه للأشياء كلها، بما أبان فيها من تصرف أحوالها وتنقلها.(1/40)

8 / 201
ع
En
A+
A-