والرافضة تزعم أن قد كانت فيهم يومئذ الأوصياء، وأنها قد كانت تعلم من الدين حينئذ ما كانت تعلمه الأنبياء، ومن كان لبعض علمِ الهدى وارثا، وكان هدى الأنبياء عليهم السلام له تراثا، كان بريا من الضلال، وغير معدود في الجهال، وإذا كان ذلك، في الأوصياء كذلك، وكانوا يزعمون أنهم إنما أخذوا هذا عن الكتاب وقَبِلوُه، وادعوا فيما قالوا به منه حكم الكتاب وتنحَّلوه، كان فيه للكتاب من التهجين، ما يلحد فيه كل لعين، شأنه تعطيل كل دين، وتلبيس كل برهان مبين. لأن ما قالوا به من هذا فمن القول المتناقض المستحيل، إذ وصفوا بعضهم بالهدى مع وصفهم لكلهم بالتضليل، لأن في أن يكون كلهم عَمِيَّا، دليل على أن لا يكون أحد منهم مهتديا ولا وصيا، وفي أن لا يكون منهم وصي ولا مهتدي، خبر عن أن كلهم ضآل ردي، وهذا فهو التناقض بعينه، وما لا يحتاج كثير إلى تبيينه، ولله الحمد في ذلك كله قبل غيره، وبالله نستعين على ما أوجب بالهدى من إجلاله وتكبيره.
ومما يسأل عنه الرافضة إن شاء الله فيما يقولون به من الأوصياء، أن يقال لهم: حدثونا عن النبي صلى الله عليه وآله، أكان وصيا لمن كان قبله من الأنبياء ؟
فإن قالوا : نعم. قد كان لمن قبله وصيا. كان أمرهم في المكابرة جليا، ولم يخرجهم ذلك من كر المسألة إليهم، وتوكيد الحجة بما في المكابرة عليهم.
فيقال لهم: حدثونا عن الوصي الذي أوصى إلى النبي عليه السلام بالوصية أمن أهل اللسان العربي ؟ كان ؟ أم من أهل اللسان العجمي ؟(1/391)


فإن قالوا : إن من أوصى إليه، صلوات الله ورضوانه [عليه]، كان يومئذ وصيا عربيا، زعموا أن الوصي حينئذ كان أُمَّيا، لأن كل عربي كان حينئذ بغير شك أميا، لأن الله لم ينزل عليهم يومئذ قرآنا، ولم يفصل لهم حينئذ بوحي فرقانا، ولم يكن يومئذ أحد من العرب رسولا نبيا، يجوز أن يكون له أحد وصيا، لأنه معلوم عند كل أحد من الأمم غير مجهول، أنه لم يكن في العرب بعد عيسى صلى الله عليه رسول، ولا مُدعٍ يومئذ وإن أبطل، يدعي أن يكون نبيا قد أُرسل.
فإن قالوا : فإن الوصي الذي أوصى إلى النبي صلى الله عليه كان أعجميا .
قيل : أَوَ ليس قد كان يُعَلِّمُه علمه وكان عليه السلام في علمه به مقتديا ؟!(1/392)


فإذا قالوا : بلى . قيل فإن الله تعالى يقول في ذلك بخلاف ما يقولونه، ويخبر أنه لم يُعلِّمه يومئذ بشر عربي ولا عجمي يعلمونه ولا يجهلونه، قال الله سبحانه :?ولقد نعلم إنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين? [النمل: 103]. فأخبر أن معلمه صلى الله عليه وآله غير أمي بأنه علمه بلسان عربي مبين . ولو كان الأمر كما تقول الرافضة في الإمامة والوصية، لما خلا النبي عليه السلام فيما نسبت إلى عربية أو أعجمية، من أن يكون قبل نبوته وبعثته، وما وهبه الله بالرسالة من نعمته، لم ير وصيا ولم يصل إليه، ولم يعرفه ولم يستدل عليه، فيكونوا هم اليوم أهدى منه يومئذ في معرفة وصيهم سبيلا، أو يكون الله أقام لهم في معرفة الأوصياء ولم يُقم له دليلا، أو يزعمون أن قد لقي وصيَّ وصيِّ عيسى صلى الله عليه ورآه، وكان مهتديا يومئذ بهداه، من قبل مجيء رسالة الله إليه، وقبل تنزيله سبحانه لوحيه عليه، فيزعمون أن قد كان يومئذ مهتديا غير ضآل، وبريا قبل نبوته مِن جَهل الجهال، وعالما بجميع الإيمان، فيكذبوا بذلك آياً من الفرقان، منها قوله سبحانه :?ووجدك ضالا فهدى? [الضحى: 7]. وقوله سبحانه في آية أخرى:?وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم? [الشورى: 52].
وقوله سبحانه :?قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون? [يونس: 16]. فهو صلى الله عليه وعلى آله لم يكن يدري ما الإيمان حتى أُدْرِي، ولا يعلم عليه السلام ما الهدى حتى عُلِّم وهُدِي، وبعض أئمتهم عندهم فقد علم ما الهدى والإيمان وهو وليدٌ طفل، ورسول الله صلى الله عليه لم يكن يعلمه حتى علَّمه الله إياه وهو رجل كهل.(1/393)


فأي شنعة أشنع، أو وحشة أفظع، من هذا ومثله، وما يلحق فيه بأهله، من مزايلة كل حق، ومخالفة كل صدق ؟! فإن هم أَبَوا ما وصفنا لتفاحشه، ولما يدخله من شنائع أواحشه، فزعموا أنه لم يكن في الأمم، لا في العرب منها ولا في العجم، قبل بعثة النبي محمد عليه السلام، وصي يُعلم يومئذ ولا إمام، ظل رسول الله صلى الله عليه بجهله، ولا أصاب الهدى يومئذ من قِبَلِه، حتى آتاه الله هداه وأرشده، وبصَّره سبيل الهدى وقَصْدَه، كما فعل بأبيه إبراهيم صلى الله عليه فيما آتاه قبله من رشده، ودله عليه من الهدى وقصده، إذ يقول سبحانه :?ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين? [الأنبياء: 51]. ويقول فيه عند تلمسه ليقين المعرفة لرب العالمين، :?فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين? [الأنعام: 75- 79]. فقرَّ بِهِ صلوات الله عليه قرارُ اليقين، في معرفة رب العالمين، حين برئ عنده من مذموم الأفول والزوال، وتصرف اختلاف التغيير و الأحوال، وما لا يكون من ذلك إلا في الأمثال المتعادلة، وأشباه الصنع المتماثلة، التي جل الله سبحانه أن يكون بشيء منها مثيلا، أو يكون جل جلاله لشيء منها عديلا .
وفي مثل ذلك ما يقول سبحانه لمحمد صلى الله عليه، مع إفضائه من يقين المعرفة إلى ما أفضى إليه :?قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين? [الأنعام: 162 - 163]. فهو عليه السلام يخبر أنه أول - أمته وقرنه، ومن كان معه من أهل أيامه وزمنه، بالله لا شريك له - إسلاماً وإيمانا، [ومعرفة بالله وإيقانا] .(1/394)


والله يخبر أن قد أَرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين، ولو كان معهما صلى الله عليهما يومئذ وصي لمرسلين، لكان إسلام الوصي وإيمانه قبل إسلام إبراهيم ومحمد وإيمانهما، ويقين الوصي بالله وعلمه قبل علمهما بالله وإيقانهما، ولما جاز أن يقول محمد صلى الله عليه، :?وأنا أول المسلمين? فيما قد سبقه غيره ممن معه إليه، وإبراهيم صلى الله عليه يطلب يومئذ المؤمنين، ويلتمس حينئذ بالله جاهداً اليقين، بحيلة كل محتال بفكره، ويخاف الضلال عن الله مع نظره، ويقول :?لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضآلين?، ويقول للكواكب :?هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين?، ومعه وصي أيامه ودهره، لايخطر على باله ولا نظره، فلا يقع على شيء مما يجيل بفكره .
والرافضة اليوم تزعم أنها قد تعلم أنه قد كان معه، وصي يلزمه أن يعرفه بعينه، ويعلمه ما يلزمها اليوم من معرفة الوصي، وما تدعي فيه من باطل الدعاوي، فهي عند أنفسها تعلم من الأوصياء في دين الله، ما لم يكن يعلمه منهم خليل الله، وتهدى من الرشد فيه، ما لم يهد الله خليله إليه. إلا أن تزعم أنه لم يكن مع إبراهيم وفي أمته وصي يهديها، فيكون في ذلك بطلان ما في أيديها، وما يلزمها من هذا في إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما، فقد يلزمها في كثير من رسل الله معهما، صلى الله على رسله وأنبيائه، وزادهم الله فيما خصهم من كرامته واصطفائه .
وإمامهم ـ اليوم فيما يزعمون، وكما في إفكهم يقولون – يدري ما كان رسول الله داريا، ويدعو إلى ما كان إليه داعيا، ودعوته صلى الله عليه وآله كانت إلى الخير والهدى، وتبيين ما كان يُبَيِّن عليه السلام من الغي والردى، وإنذار من أدبر عن الله يومئذ وأعرض، وإعلام العباد بما حكم الله يومئذ وفرض .(1/395)

79 / 201
ع
En
A+
A-