وأخبر سبحانه بأصدق الخبر عن فسق من كفر منهم نِعَمَه فيه، ولم يؤد من شكره به ما يجب لله عليه، فقال سبحانه :?وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون? [النور: 55].
فمن لم يفعل من الإيمان ما فعلوا، ويعمل من الصالحات كما عملوا، فلم يجعل الله له إيمانا ولا إسلاما، فكيف يجعله الله في الهدى إماما ؟! وإنما جعل الله الإمام مَنْ هدى بأمره، وعُرِفَ بالجهاد في الله مكان صبره، كما قال الله لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله :?ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرآئيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا، وكانوا بآياتنا يوقنون? [السجدة: 23].
فكيف يكون بالله موقنا أو معتصما، أو عند الله مؤمنا أو مسلما، من يشبه الله بصورة آدم، وبما فيه من صور الشعر واللحم والدم ؟ وأولئك فأصحاب هشام بن سالم .
أو كيف يكون كذلك من قال بقول ابن الحكم، وهو يقول: إن الله نور من الأنوار، وإنه سبحانه حبة مسدسة المقدار، وإنه يُعلم بالحركات ويُعقل، وتحف به الأماكن وينتقل، وتبدو له البدوات، وتخلو منه السماوات. لأنهم يزعمون أنه على العرش دون ما سواه، وأنه لا يبصر ما حجبت عنه الحجب ولا يراه، ويدنو لما يدنو له من الأشياء المشاهدة، وينأى عما نأى عنه بالمباعدة، فما نأى عنه فليس له شهيد، وما قرب منها إليه فهو منه غير بعيد .(1/386)


والله سبحانه يقول فيما وصف نفسه لعباده، وما تَعرَّف إليهم به من الصفات في كتابه :?يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شئ شهيد? [المجادلة: 6]. وقال سبحانه :?إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد? [الحج: 17]. وقال سبحانه :?ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد? [ق: 16]. وقال سبحانه :?وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون? [الأنعام: 3]. أفما في هذا بيان قاتلهم الله أنى يؤفكون!!
مع ما بَيَّن في غير هذا من بُعده عن شَبَهِ الأشياء، من النور وغيره من كل ظُلمة وضياء، من ذلك قوله سبحانه :?لاتدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ? [الأنعام: 103]. وقوله سبحانه :?ليس كمثله شيء وهو السميع البصير? [الشورى: 11]. وقوله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله، :?ولم يكن له كفؤا أحد? [الإخلاص: 4]، والكفؤ: فهو المثل والند. فلو كان كما قال هشام وأصحابه نورا وجسما، أو كان كما قال ابن الحكم لحما أو دما، لكانت أكفآؤه عددا، وأمثاله سبحانه أشتاتابددا، لأن الأنوار في نورها متكافية، والأجسام في جسميتها متساوية، وكذلك تكافؤ اللحم والدم، كتكافؤ الجسمية كلها في الجسم، ولو كان كما قال أصحاب النور نورا محسوسا، لكانت الظلمة له ضدا ملموسا، ولو كان بينهما كذلك لوقع بينهما ما يقع بين الأضداد، من التغالب والتنافي والفساد، فسبحان من ليس له ند يكافيه، ولا ضد من الأضداد ينافيه، ?خالق كل شيء وهو على كل شيء قدير? [الزمر: 62].
وما قالت به الرافضة من هذا فقد تعلم أن كثيرا منها لم يقصد فيه لما قصد، أو يعتقد من الشرك بالله في قوله به ما اعتقد، ألا وإن ماقالوا به في الله، أشرك الشرك بالله، فنعوذ بالله من الشرك بربوبيته، والجهل لما تفرد به من وحدانيته.(1/387)


هذا إلى ما أتوا به من الضلال بقولهم في الوصية، وما أعظموا على الله وعلى رسوله في ذلك من الدعوى والفِرية، التي ليس لهم بها في العقول حجة ولا برهان، ولم ينزل بها من الله وحي ولا فرقان.
وما قالت به الرافضة في الأوصياء من هذه المقالة فهو قول فرقة كافرة من أهل الهند يقال لهم البرهمية، تزعم أنها بإمامة آدم من كل رسول وهدى مكتفية، وأن من ادعى بعده نبوة أو رسالة، فقد ادعى دعوة كاذبة ضآلة، وأنه أوصى بنبوته إلى شيثَ، وأن شيثا أوصى إلى وصي مِن ولده، ثم يقودون وصيته بالأوصياء إليهم، ولا أدري لعلهم يزعمون أن وصيته اليوم فيهم.
ولو كان الهدى في كل فترة كاملا موجودا، ولم يكن إمام الهدى في كل أمة مفقودا، لما جاز أن يقال لفترة من الفترات فترة، ولا كانت للجاهلية في أمة من الأمم قَهَرة، وقد ذكر الله لا شريك له أنه لم يرسل محمدا عليه السلام إذ أرسله، ولم يرسل من أرسل من الرسل قبله، إلا في أمة ضآلة غير مهتدية في دينها لحظها، ولا مستحقة على الله بإصابة رشدٍ لحفظها، ولكن رحمة منه سبحانه لها وإن ضلت، وإحسانا منه إليها في تعليمها إذ جهلت، كما قال الله سبحانه :?كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين? [البقرة: 213]، فأخبر أنهم كانوا ضالين غير مهتدين . ولو كان فيهم حينئذ وصي وأوصياء، لكان فيهم يومئد لله ولي وأولياء، ولما جاز مع ذلك، لو كان كذلك، أن يقال لهم: أمة واحدة، لأنهم فرق متضآدة، لا تجمعهم في الهدى كلمة، ولكنهم في الضلال أمة .(1/388)


وكما قال سبحانه في بعثته لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم :?وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون? [القصص: 46]. فما ذكر سبحانه أنه كان فيهم يوم بعثته له إليهم، ومنته بالهدى فيه عليهم، مهتدٍ واحد منهم بهداه، ولا قائم بما هو الهدى من تقواه، لا رسول ولا نبي، ولا إمام ولا وصي، حتى مَنَّ تبارك وتعالى عليهم، ببعثته لمحمد عليه السلام إليهم، فأقام لهم به منار الهدى وأعلامها، ونهج لهم سبل الحجج بأنوار أحكامها، فبين به من ذلك كله ما كان دَرَسَ وهلك خفاتا، وأحيى به صلى الله عليه وعلى آله ما كان مواتا، توحُّدا منه سبحانه بالمنة فيه على خلقه، وإفرادا لرسوله صلى الله عليه وعلى آله بالدلالة على حقه، فلم يبق من هدى المحجوجين من العباد، باقية بها إليهم حاجة من رشاد، يكون بها لهم في دنياهم صلاح، ولا لهم فيها عند الله فلاح، إلا وقد جاء بها كتاب الله سبحانه منيرة مستقرة، وكرر - لا إله إلا هو - بها فيه بعد تذكرة تذكرة، إحسانا إليهم ورحمة، وتذكرة لهم وعصمة، ومظاهرة للنعمة فيهم وإسباغا، واحتجاجا بكتابه عليهم وإبلاغا، كما قال سبحانه :?هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين? [آل عمران: 138]. وقال سبحانه :?هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون? [الأعراف: 203].(1/389)


فأين ذكر الرافضة في هذا وأمرها من ذكر الله وأمره، وما بَيَّن سبحانه من إكذابهم فيما قالوا بخبره ؟! فالله سبحانه يخبر أن كلهم كان ضآلا فهَدَاه، وجاهلا بالهدى حتى علَّمه الله بمنة إياه، كما قال سبحانه لبني آدم :?والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون? [النحل: 78]. وقال سبحانه لرسوله :?وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما? [النساء: 113]. وقال سبحانه :?هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ? [الجمعة: 2].
وقال سبحانه :?ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين? [النحل: 36].
ولا يُهْدَى أحد أبدا إلا من ضلال، ولا يهتدي مَن تركه الله في جهالته من الجهال، والله سبحانه يخبر أنهم كلهم كانوا في ضلال وعمى، وقد كانوا جميعا جهلة بدينه لا علماء .(1/390)

78 / 201
ع
En
A+
A-