ثم يُسألون فيقال: أخبرونا عن إبليس، خلقه الله ليعبده ؟ أو ليعبد مَنْ دونه ؟..
فإن قالوا: خلقه ليعبده. تركوا قولهم. وإن قالوا: ليعبد مَنْ دون الله، زعموا أنه أول من أشرك بنفسه، إذ جعل إبليس لِيعبُد مَنْ دونه ويشركه في عبادته، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ثم يقال لهم: إن زعمتم أن الله خلق خلقه كفارا، وأمرهم بالإيمان، أفليس قد أمرهم أن ينتقلوا من خلقهم، وأن يصيروا إلى خلاف ما خلقهم عليه ؟!
فإن قالوا: نعم. قيل لهم: فَلِمَ لا يجوز أن يخلقهم سودا ويأمرهم أن يصيروا بِيضاً، كما خلقهم كفارا، وأمرهم بالإيمان ؟! فلا بد من إجازة ذلك، أو يتركوا قولهم.
ثم يُسألون أيضا، فيقال لهم: إذا خلق الكفار كفارا، أيجوز أن يكون الكفر فعل الكفار ؟
فإن قالوا: نعم. قيل لهم: وكذلك يجوز أن يخلق الأبيض أبيض، ويكون البياض فعله، ويخلق الأسود أسود ويكون السواد فعله !!
وإن سألوك فقالوا: إذا زعمت أن الله تبارك وتعالى، خلق العباد للايمان، فلم يؤمنوا، لم لا يجوز أن يخلقهم للموت فلا يموتوا ؟
فقل لهم: إنما أعني بقولي: إن الله خلقهم ليفعلوا الايمان، ولم يخلقهم للموت ليفعلوا الموت، فهذا فرق ما سألتم عنه.
فإن قالوا: خلقهم للايمان فلا يؤمنون ؟
قلنا: نعم. كما أمرهم بالايمان فلم يؤمنوا.
فإن قالوا: فما أنكرتم من أن يخلقهم للايمان كما خلقهم للموت ؟
قيل لهم: مِن قِبَل: أن معنى قولي: خلقهم للموت، أريد أن الله خلقهم ليميتهم ويضطرهم إلى ذلك، فلو كان خلقهم للايمان كما خلقهم للموت كانوا كلهم مؤمنين، كما كانوا كلهم يموتون، ولو كان ذلك كذلك، لم يجز أن يأمرهم بالإيمان، ولا ينهاهم عن المنكر والكفر، كما لا يجوز أن يأمرهم بالحياة، ولا ينهاهم عن الموت، ولا يجبرهم على شيء من ذلك، ولا يثيبهم به. فمن هاهنا أنكرنا ما ذكرتم.
ثم يقال لهم: إذا زعمتم أن الله خلق الناس كفارا، فمن جاء بالكفر ؟ مَنْ خَلقه ؟! أو مَن لم يخلقه ؟!(1/376)
فإن قالوا: من خلقه يقال لهم: فما معنى قوله:? لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السموات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ? [مريم: 89 - 91]. وقوله:? لقد جئت شيئا نكرا ? [الكهف:74]. فهل يكون هذا على معناكم وأصلكم ومذهبكم إلا كذبا ؟! لأنكم زعمتم أن الله تبارك وتعالى، جاء به. وقال للكفار: أنتم الذين جئتم به. فلو أردتم تصفون ربكم بالكذب كيف كنتم تقولون ؟! وهل يجوز هذا عندكم ؟! وفي عقولكم أن يكون للصادق أن يفعل شيئا، ثم يقول لغيره: أنت فعلته! ولو جاز أن يكون فاعل هذا صادقا، جاز أن يكون من فعل شيئا وجاء به، وقال: أنا جئت به أن يكون كاذبا، مع أن الله تبارك وتعالى، قد عاب فاعل ذلك وذمه، فقال: ? ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا، فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ? [النساء: 112].
وإن زعم أن الكفر جاء به من لم يخلقه، ومن خلقه لم يجئ به خرج من المعقول، ولزمه أن يقول: إن من لم يخلق الموت هو الذي جاء به، ومن خلقه لم يجئ به، وهذا خروج من عقول الخلائق.
فإن سأل سائل عن قول الله تبارك وتعالى:? ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ? [الأعراف: 179]. فقال: إذا كان قد أخبر أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس، كيف يزعم أنه خلقهم لعبادته ؟ وإلا فبينوا ما تأويل الآية عندكم ؟!(1/377)
فأول ما نجيبه أن نقول له: ينبغي أن تعلم أن كتاب الله لا يتناقض ولا يختلف، ولا يكذب بعضه بعضا، لأن الاختلاف لا يأتي من عند حكيم، وقد قال تبارك وتعالى:? ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ? [النساء:82]. فإذا علمت أن ذلك كذلك، فقد وضح لك الأمر، أمر الآية من قِبَل أنه أخبرنا أن خلق الإنس والجن لعبادته، وقال في موضع آخر:? ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس?. ثم أخبرك مَنْ هم فقال: ? لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها…… ? [الأعراف: 179] إلى آخر الآية. فينبغي لك إذا ورد عليك شيء من كتاب الله، مما ذهب عنك معناه، أن تسأل عنه العلماء، فإن الله عز وجل، يقول:? فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ? [النحل: 4]. وقال:? إنما يخشى الله من عباده العلماء ? [فاطر:28]. وليس ينبغي لعاقل أن يدع ما عَلِم لما جَهِل، وليس لك أن تشك في الواضح إذا ذهب عنك الخفي، فينبغي للعاقل أن يتمسك بالواضح من كتاب الله، وبالمحكم من كلام الله، فإن في ذلك تبيانا وشفاء لمن طلب الحق وأراده. وقد رغَّب الخلق في التمسك بالمحكم من كتابه، فقال: ? هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأُخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، يقولون آمنا به ? [آل عمران: 7]. وأنا مخبرك بتأويل الآية: قال بعض أهل العلم: إن معنى قوله:? ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس?. يريد الإعادة ولم يرد ابتدأهم لجهنم. ألا ترى أنهم كانوا في الدنيا يتمتعون ويأكلون !(1/378)
ولكن لما علم تبارك وتعالى، أن أكثر عاقبة هذا الخلق يصيرون إلى جهنم بكفرهم، جاز على سعة الكلام ومجاز اللغة:? ولقد ذرأنا لجهنم ?. وإن كان إنما خلقهم في الابتداء لعبادته، وذلك جائز في اللغة. وقد قال نظير ما قلنا في كتابه في موسى، عليه السلام، قال:? فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ? [القصص: 8]. وإن كانوا إنما التقطوه ليكون لهم قرة عين، وهكذا حكى الله عن امرأة فرعون، إذ قالت:? قرة عين لي ولك، لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا ? [القصص: 9]. ومثل قوله:? إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا ? [النساء:10]. لما كان عاقبة أمرهم إلى ذلك، وإن كانوا لا يأكلون في الدنيا إلا الأخبصة، والفالوذجات، والأطعمة الطيبة.
وقد قال الشاعر ما يدل على ما قلنا من ذلك:
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
وللحتوف برى الأرواح باريها
وللمنايا تربي كل مرضعة
والوجه الثاني قال فيه بعض العلماء: إن معنى قوله:? ذرأنا لجهنم كثيرا ?: خلقنا، ومعنى خلقنا: على أن سنخلق، وليس على قد خلقناكم في الابتداء لجهنم، وإنما أراد به في القيامة، كما قال:? ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ? [الأعراف:44]. على معنى سينادون، وكما قال:? قال الذين استضعفوا للذين استكبروا ? [سبأ:33]. إنما يريد الله بقوله سنخلقهم بمعنى الإعادة، وهو يوم القيامة في النشأة الأخرى، فهذا تأويل الآية.
وإنما يدخلون جنهم بأعمالهم جزاء بما كانوا يكسبون، وجزاء بما كانوا يكفرون، وجزاء بما كانوا يعملون، قال الله عز وجل:? لهم قلوب لا يفقهون بها ? [الأعراف:179]. يعني لا يتفقهون بها، وقد كانوا يفقهون ما يقولون، ويبصرون ما هو ألطف من الخردل، ويسمعون ما يريدون، ويستثقلون ما لا يريدون. فعلى هذا المعنى تأويل الآية، وكل آية تشبهها.
ومن سألك فقال: مَن خلق الشر ؟!(1/379)
فقل له: إن الشر على أمرين: شر هو أَلَمٌ وأذًى وعذاب، وشر هو ظلم وجور وكذب وعيب.. فعن أي الشرين تسأل ؟
فإن قال: عن الظلم والجور.
فقل: إن الظلم من أفعال الظالمين، والجور من الجائرين، والكذب من الكاذبين.
فإن قال لك فالجور مَنْ خلقه ؟
فقل له: لم نقل إنه مخلوق، فتسألنا عن خالقه. فإن قال لك: فَلِم يخلقُ الله الكذب، والجور ؟!
فقل له: إن معنى خلقه: فعله، والله لم يفعل الجور والكذب والظلم، لأن الجور والكذب لا يفعله إلا كاذب جائر ظالم.
فإن قال: ما دليلك على أن الحمَّى والألم شر ؟
فقل له: دليلي على ذلك قول الله تبارك وتعالى:? ونبلوكم بالشر والخير فتنة ? [الأنبياء:35]. وقوله:? وإذا مسه الشر جزوعا ? [المعارج:70]. وقول القائل: لم أزل البارحة في شر طويل، من حمى ووجعِ ضرس، أو أذن، أو بدن، على ما قال المتوجع.
ثم يقال له: أخبرني عن الخير والشر، كله من الله ؟!
فإن قال: نعم.
يقال له: وإذا كان الخير كله من الله، فهل كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخير أيضا ؟
فإن قال: نعم. ترك قوله، وزعم أن النبي فعل خيرا، وفعلُ النبي غير فعل الله. فإن قال: لم يفعل النبي خيرا، فقد شك في الحق وكَفَرَه، وجحد محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وَجَهِله.
ثم يسأل عن إبليس، يقال: كان من إبليس شر قط ؟
فإن قال: نعم. ترك قوله. وإن قال: لا. فقل له: فلا ينبغي لك أن تستعيذ من شر إبليس، لأن من استعاذ من شره فهو أحمق عابث، وإذا استعاذ مِن شرِّ مَن لا شر له فقد جهل. هذا مع قول الله عز وجل:? قال أعوذ برب الفلق… ? [الفلق:1] إلى آخر السورة.
ومن سأل عن ولد الزنا، مَنْ خلقه ؟ فيقال: الله خلق ولد الزنا وولد الكافر، والناس أجمعين.(1/380)