وإنما أنزل الله الكتاب ليُتمسَّك به، قال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم:? اتبع ما يوحى إليك من ربك ? [الأحزاب:2]. وقال:? فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ? [طه:123 - 124]. وقال:? اتبع ما أوحي إليك من ربك ? [الأنعام: 106]. ثم قال لجميع الأمة:? اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ? [الأعراف:3]. فاتقوا الله ولا تقولوا على الله إلا الحق، فقد بَيَّن لكم آثار من مضى من أسلافكم، وقص عليكم قصة من كان قبلكم، من المؤمنين والصالحين، ومن أوليائه المرسلين، وما أمركم من الاقتداء بهم، وَرَغَّبكم في مرافقتهم، وقد خبَّركم ما قد أصبح بمن خالفهم وسلك عكس طريقهم، من قوم لوط، وأصحاب فرعون، فأخذهم الله بذنوبهم فقال: ? فكلا أخذنا بذنبه ? [العنكبوت:40]. وقال، سبحانه لنبيه:? أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده ? [الأنعام:90]. وقال:? فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ? [الزمر: 18، 19].
ثم قال :? إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان لهم سوَّل وأملى لهم ? [محمد:25].
فهذا ما أخبر الله عز وجل ذِكرُه عن جميع عباده، كيف من ضل منهم، واهتدى من اهتدى منهم، ومن بعدما قد حكى الله من أنبيائه صلوات الله عليهم، وعلى آدم وحواء، قال الله: ? وعصى آدم ربه فغوى ? [طه: 121] ثم قال:? ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ? [الأعراف:22] فاعترفا بذنبهما، فقالا مقرَّين تائبين عن معصيتهما :? ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ? [الأعراف:23].
ولم يقولا: معصيتنا من الرحمن وإرادته.
والقدرية والمجبرة يقولون: معصيتنا بقضاء الله وإرادته، خلافا على أبي البشر عليه السلام.(1/371)
وقال الله، عز وجل، يخبر عن موسى صلى الله عليه:? فوكزه موسى فقضى عليه، قال هذا من عمل الشيطان ? [القصص: 15]. ولم يقل: هذا من الله ومشيئته. وقال يعقوب عليه السلام:? بل سوَّلت لكم أنفسكم ? [يوسف: 18]. والقدرية تقول: إن الله سوَّل لهم ذلك. وقال يوسف صلى الله عليه:? من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ? [يوسف:100]. وقال يخبر عن يونس، عليه السلام:? فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ? [الأنبياء: 87]. والقدرية تزعم أن الظلم قضاء رب العالمين. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ? إن ضللت فإنما أضل على نفسي، وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي ? [سبأ: 50]. فجعل ضلالته من قبل نفسه، وهُداه من قِبَل ربه، موافقة لله، إذ يقول سبحانه:? إن علينا للهدى ? [الليل: 13]. وقال:? الذي قدر فهدى ? [الأعلى: 3]. وقال:? يبين الله لكم أن تضلوا ? [النساء:76]. أي لئلا تضلوا. وقال:? فأما ثمود فهديناهم، فاستحبوا العمى على الهدى ? [فصلت: 17]. فكل ما كان من هدى فقد أضافه إلى نفسه، وكل ما كان من ضلال فقد أضافه إلى خلقه، والله أولى بما أضاف إلى نفسه، والعباد أولى بما أضاف إليهم، وكانوا هم المعتدين الظالمين، الجائرين المخالفين لقضائه وقدره، تبارك وتعالى.
فأقرَّت الأنبياء، صلوات الله عليهم بالإساءة والتقصير، فيما أغفلت وقصَّرت، وأضافت ذلك إلى أنفسها، وإلى الشيطان، معرفة منهم بالله، أنهم لم يُؤتَوا في ذلك من ربهم. وخالفت المجبرة والقدرية كتاب الله، ووافقت الشيطان، قلة معرفة منهم بعدل الله في خلقه، ورحمته لهم، وانتفائه من ظلمهم، في قوله:? إن الله لا يظلم مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها، ويؤت من لدنه أجرا عظيما ? [النساء:40].
فقد ذكرنا جملة مما احتج الله على القدرية الكاذبة على الله في كتابه، وعلى النبيين.(1/372)
وكيف يتوهم عاقل، أو ينطوي قلبُ مؤمن ؟! أنه مصيب مع خلافه لقول الله وقول أنبيائه ؟! إن من ظن ذلك لقد جهل جهلاً مبيناً، وضل ضلالاً بعيدا.
فزعموا من بعدما حضرنا ما ذكرنا، وما لم نذكر من حجج الله عليهم، وما قد رد الله من مقالتهم، وأكذبهم ما لا يحصى، فزعموا أن الله خلق الخلق صنفين، وجعلهم جزأين، فجعل صنفا يعبدونه، وصنفا يعبدون الشيطان، وجعل من يعبد الشيطان أكثر ممن يعبد الله، فأكذبهم بقوله:? وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ? [الذاريات: 56].
ثم زعموا أن الله تبارك وتعالى، رضي بذلك وأراده وأحبَّه، وأنه لا يرضى أن يعبد من أرضاه أن يكفر به، تكذيبا بقول الله وردا عليه إذ يقول:? لا يرضى لعباده الكفر، وإن تشكروا يرضه لكم ? [الزمر:7]. ويقول:? وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ? [البقرة:205]. فتعالى الآمر بالعدل والاحسان، أن يكون راضيا بالمنكر والعدوان، لأنه لا يريد الظلم لأنه عدل، ولا يريد الفساد لأنه مصلح، ولا يحب المنكر لأنه حكيم حاكم بالحق.(1/373)
وقال سبحانه ردا على من زعم أن الله أراد الكفر والظلم، فقال سبحانه:? وما الله يريد ظلما للعباد ? [غافر:31]. وقال:? يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ? [البقرة: 185]. وقال:? يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ... إلى قوله: أن تميلوا ميلاً عظيما ? [النساء: 26، 27]. فأخبر أنه يريد أن يبين لنا ويهدينا، وأن الشيطان يريد خلاف ذلك بنا. إذ كان سبحانه ناظرا رحِيما بنا، وكان الشيطان عدوا لنا مبغضا، فلا يكون الناظر لنا يريد بنا عدوانا. وقال:? يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون ? [الصف: 8]. وقال:? تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ? [الأنفال: 67]. وقال:? يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا ? [النساء: 28]. في آي كثيرة، ولولا طول الكتاب ذكرتها، وفيما ذكرنا كفاية. والحمد لله.
زعمت القدرية: أن العباد ما شاءوا شيئا قط، ولا يريدون شيئا، والله هو المريد للظلم، والغِرآة عليه، فرد الله عليهم بقوله:? من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ? [الكهف:29]. و:? من شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ? [الإنسان:29]. وقال:?كلاَّ إنها تذكرة فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة ? [عبس:11 - 13]. وقال موسى، عليه السلام:? لو شئت لاتخذت عليه أجرا ? [الكهف: 29]. وقال أهل الجنة:? الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ? [الزمر:74]. فذكر الله المشيئة في غير موضع من الكتاب، وذكر أن العباد يريدون ويفعلون ويشاءون، تكذيبا لمن قال بخلاف ذلك.
فقد ذكرنا جملة من كتاب الله تبارك وتعالى، مما فيه رد عليهم، وحجة بلاغ لقوم عابدين.(1/374)
[أسئلة إلى المجبرة]
ونحن سآئلون بعد ذلك، وبالله نستعين، مع أن في المسألة آيات كثيرة مما قد دل الله العباد، وبين لهم أنهم يشاءون ويريدون، ويرضون ويحبون.
فأما المشيئة فقال: ? اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير ? [فصلت:40]. وقال:? ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ? [الفرقان: 57].
فأما الإرادة فقال: ? منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة ? [آل عمران: 152].
وأما الرضى، فقال: ? رضي الله عنهم، ورضوا عنه ? [المائدة: 119].
وأما المحبة، فقال: ? يحبون من هاجر إليهم ? [الحشر: 9]. وفي ذلك آيات كثيرة مما لم نذكره.
ثم يقال لمن زعم أن الله خلق أكثر خلقه ليعبدوا غيره: ما حجتك وما برهانك على ما ادعيت من ذلك ؟ أبكتاب الله ما قلت ؟! أم بسنة ؟ أم بقياس ؟
فإن ادعا حجة من الكتاب.
سئل ؟
فإن قال: قلت: يقول الله:? ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ? [الأعراف:179].
يقال له: إنا لم نسألك عما أجبت، وإنما سألناك عن قولك: خلق الله أكثر خلقه ليعبدوا غيره، فمن زعم أن الله خلق أكثر خلقه للكفر والمعصية، فلا يجد إلى ذلك سبيلا. مع أن لقوله:? ولقد ذرأنا لجنهم كثيرا من الجن والإنس ?. تأويل عدل الله، وإنما ذرأ لجهنم من عصاه، وابتغى غير سبيله، فجعلهم ذَرَوَ جهنم، جزاء بما كانوا يكسبون، ويعملون.
ثم يُسأل عن قوله سبحانه:? وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ? [الذاريات: 56] ؟ فإن زعم أن ذلك خاص في المؤمنين ! سئل عن الحجة في ذلك والدليل على ما قال ؟ ثم يعارض، فيقال له: إذا زعمت أن ذلك خآص، ثم زعمتم أن قوله:? يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ? [الأعراف: 158]. فإن كان خآصا إلى المؤمنين، والمؤمنون قد آمنوا، فما معنى قوله: آمنوا، وقد آمنوا ؟! فلا يجدون وجه الآية أبدا إلا قول الحق خآصاً في المؤمنين، دون الكافرين، ولا يجدون فرقا في ذلك.(1/375)