ومما ضرب الله سبحانه في كتابه من الأمثال، قوله سبحانه:?وكنتم على شفا حفرة من النار? [آل عمران:103]، ولا يعرف أحد الحفرة، إلا محفورة منقعرة، وقد جاز في ذلك ما نزل الله سبحانه من المثل، وقد يجوز مثل ذلك في الكرسي والعرش والإحفاف والحمل، لا يأبى ذلك - إن شاء الله - ولا يجهله، من يعرف لسان العرب ولا من يعقله، وقد تُدعا من الحفرة شفا، وماكان منها ولها حرفا، وعليها من فمها مشرفا، فهل كان من المؤمنين الأتقياء البررة ؟! أحد على فم ما ذكرنا من هذه الحفرة !!!
وكذلك قوله سبحانه:?وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا? [الكهف:14]. ولا يَتوَهَّم - والحمد لله شيئا من ذلك كله عقدا ولاربطا، مربوطة ولا معقودة، مقصرة ولاممدودة، ولايتوهم منها رباطا واحدا، - إلا مَن لم يهبه الله في ذلك هداية ولا رشدا، وما من هذا في القرآن، وفيما للعرب من اللسان، فيكثر عن أن نذكره كله، والحمد لله لا شريك له، ولولا كراهتنا للتكثير والتطويل، لذكرنا بعض ما قالت العرب في ذلك من الأقاويل، وسنذكر إن شاء الله بعض ما نزل الله سبحانه في ذلك تنزيلا، وبعض ما قالت العرب في الجاهلية والإسلام تمثيلا.
فمن أمثال الله سبحانه في ذلك البينة النَّيِّرة، وأقواله جل ثناؤه المقَوِّية فيه للعلم والبصيرة، قوله:?ليخرجكم من الظلمات إلى النور? [الأحزاب:43]. وليس يتوهم الظلمات ليلا أسود ولامثله، إلا من لا عقل له، ولايتوهم ماذكر الله من النور شمسا ولاقمرا، إلا من لم يجعل الله له لبا ولا فكرا.
ومن ذلك قوله سبحانه:?وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا? [الشورى:52]. ولا يتوهم الروح كأرواح البشر، إلا من لم يعمر الله قلبه بضياء ولابصر.(1/351)
ومما ضرب الله من الأمثال، وما يفهم بها وفيها من المقال، قوله سبحانه:?من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب? [الشورى:20]. فدعا تبارك وتعالى ذلك كله حرثا وسمَّاه، ولم يرد بذلك سبحانه الحرث الذي نعرفه نحن ونراه، من حرث الأرض الذي لا يكون حرثا عند من لا يعقل سواه، وقد عرفنا بمنِّ الله ما أراد بذلك وعناه.
وكذلك الكرسي والعرش والحمل فقد علمنا، أنه ليس يشبهه بما يفنى، وأن لله في ذلك كله الأسماء الحسنى، والمباينة للخلق من المشابهة له في كل معنى.
ومن الأمثال أيضا التي لا تخفى، إلا على مَن جَهِلَ من الناس وجفا، قوله سبحانه:?ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان? [الحديد:25]. وإنما معنى الميزان: معنى القضاء والفصل، وما حكم به بين عباده من العدل.
ومثل ذلك يقول أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين:?ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين? [الأنبياء:47]. ولا يتوهم الموازين ذات كُفف، ولا الوزن وزنا بالأيدي والأكف، إلا كل بائر، عَمٍ جائر، وكلما ذكر الله من ذلك فبيِّنٌ والحمد لله معروف، لا يعمى عنه ولا يعتسف العلم فيه إلا عسوف.
ومن الأمثال التي لم تزل تمثلها العرب حديثا وقديما، لا يجهل ما تريد بها إلا مَن كان من معرفة لسانها عديما، قول زهير بن أبي سلمى، في الجاهلية الجهلاء:
ما عضني الدهر إلا زادني كرما
.................................
ولا يُتوهم العض إلا لما كان فما.
وقالت الخنساء:
تَعرَّقني الدهر نهشا وحزا .... وأوجعني الدهر قرعا وغمزا
ولم ترد خنساء أنه ينهش بفم ولا ناب، ولا يتوهم ذلك أحد من الحمقاء فضلا عن ذوي الألباب، ولا يتوهم الحز ولا الغمز بكف ذات أصابع، ولا القرع بقرع من مقارع.
وقالت هند بنت عتبة ترثي أباها:
وكان لنا جبلا راسيا .... طويل المزاد كثير العشب(1/352)
وقال بعض الشعراء بعد الإسلام:
معن بن زائدة الذي زيدت به .... شرفا على شرف بنو شيبان
جبل تلوذ به نزار كلها .... صعب الذرى متمنع الأركان
وقد عُلم أنه ليس أحد من الرجال، بجبل مما يعرف من الجبال، ولما جعلوه جبلا وصفوه بما يمكن من صفة الجبل في العشب والمرعى، وتَمَنُّعِ الأركان وصعوبة الذرى، وجاز ذلك كله عندهم في المثل، وكذلك فقد يمكن مثل ذلك في العرش وما ذكر من الحملة له والحمل.
وفي ضرب الأمثال، وما يجوز منها في المقال، ما يقول امرؤ القيس بن حجر:
أميمة إن الدهر في وثباته .... أصاب جيادا نابه ومخالبه
وليس أحد عقل أولم يعقل من الناس، يتوهم أن الدهر ذو مخالب ولا أنياب ولا أضراس.
وقال ابن ميادة:
فإن يك ظني صادقي وهو صادقي .... بعبس يكن بالمشرفي عتابها
ويحتلبوها أم سقبين لاقحا .... عنيفا بأيدي الحالبين احتلابها
يريد بقوله الحرب، وقد علم أن كل حرب ليست تلقح بسقبين ولاسقب، ولابذات دَرٍّ ولا حلب. والسقب فهو ولدها إذا كان صغيرا، والحلب فهو لبنها قليلا كان أوكثيرا، وقد علم أن هذا كله لا يتوهم فيها ولا عليها، وقد جاز أن ينسب كما ترى في الأمثال إليها.
وكذلك قال النميري:
وحرب قد حلبناها صراها .... وحرب قد حلبناها علالا
إذا لبست عوان الحرب جُلاًّ .... كشفنا عن مشاعرها الجلالا
والمشاعر: هي القوائم. والصرا: هو جمع اللبن في الضرع حينين، والعلال: فهو حلب اللبن في كل حين.
وقد قال زهير في الحرب:
فتعرككم عرك الرحا بثفالها .... وتلقح كشافا ثم تحمل فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كله .... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
وقد علم أن الحرب لا تلقح ولا تتأم، ولا تنتج ولا ترضع ولا تفطم، وقد جاز ما قال كله في الأمثال، وكان القول به عند العرب من أصح المقال.
وفي مثل ذلك من المثل، ما يقول:
......................
وهم حملوا المئين فلم تؤدهم حمائلها(1/353)
ولا يُعرف الحمل، المحمول إلا كما يحمل الحاملون.
وقال زهير أيضا:
وما إن بيتهم إن عد بيت .... فطال السمك واتسع البناء
فأما أسه فعلا قديما .... على الأحساب إذ رفع النماء
ولم يرد ببيتهم بيتا من مدر ولاشعر، ولابِأُسه أُسًّا من صخر ولا حجر.
وقال ابن ميادة:
لنا قبة في المجد خضراء صخمة .... تبذ القباب ذات موج وساحل
لنا راية فوق السماء كأنها .... زبيبة وكر رُوِّقت فوق حامل
وليس يتوهم ماذكر من القبة قبَّة ذوات عوارض مشبكة، ولا أنها قبة مصبوغة بخضرة ولا ملككة. فيا ويل من شبه الله جل ثناؤه، وتباركت بقدسه أسماؤه، في ذاته ومعرفته، أوفي شيء من صفته، من كرسي أو عرش، أو أَخْذٍ أو بطش، بخلقه المفتطر المجعول، من محمول أو غير محمول، وجل الله سبحانه عن أن يقع عليه بذلك قول، أو تعتقد مشابهته في شيء من ذلك كله العقول.
وقد قال أيضا ابن ميادة:
هم الهامة العلياء والذروة التي .... تقصر عنها سطوة المتطاول
وقد علم أن هذا مثل لا يجهله إلا كل عَمِيٍّ جاهل.
وسألت: أبي رحمة الله عليه عن تأويل ?وجاء ربك? [الفجر:22]. و?هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام? [البقرة:210]. و?هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك? [الأنعام:158]؟
فقال: تأويل ذلك كله مجيء آيات الله وحكمه، وإتيان أمر الله من رحمته أو نقمه.
ومثل ذلك في المجيء قوله:?ولقد جئناهم بكتاب فصلناه? [الأعراف:52]. وفي الإتيان قوله:?فأتى الله بنيانهم من القواعد? [النحل:26]. ولا يتوهم مجيء الله وإتيانه، جل جلاله وتعالى شأنه، مجيئا من مكان إلى مكان، ولا إتيان رؤية ولا عيان، ومن قال ذلك أو ظنه فثبته في نفسه، خرج بذلك صاغرا من توحيد ربه، والحمد لله رب العالمين كثيرا، وصلى الله على محمد وأهله وسلم تسليما.(1/354)
وسألته: عن تأويل قول الله جل جلاله:?الذي خلق السموات والأرض ومابينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش? [يونس:3]. ما وجه استوى ؟ وما معناه ؟
فقال: تأويله: ملكه للأشياء وارتفاعه عليها واعتلاه، كما يقول القائل: استوى فلان على ملك فلان فاستوى، يريد مَلِكَ ما كان يملك فلان كله سواء.
وكذلك يقول إذا ملك ملكه قعد على عرش فلان وجلس، وليس يريد أن عرشه مقعد له ولامجلس، وقد يكون العرش لكل شيء سقفه وأعلاه، كما جعل الله أعلا ما خلق من السماوات منتهاه، فأي هذا كله قال به في مثل استوى على العرش قائل، لم يخط في تأويله به قائل ولا متأول.
فأما ما يذهب إليه الجاهل، من أن العرش لله مقعد وحامل، تحيط به أقطاره، وتحويه أقداره، فلا يجوز في الألباب، تأويله على رب الأرباب، ومَن تأوَّل ذلك في الله، فهو من الجاهلين بالله، فنعوذ بالله من الجهل به وبجلاله، ومن القول بذلك فيه وأمثاله، وحسبنا الله لا إله إلا هو عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم.
وإذا كان العرش كما قال الله مربوبا وكان الله له ربا مبتدعا، لم يخل من أن يكون لله خلقا وصنعا، وإذا كان ذلك كذلك، وعلى ما يقول الجهلة في ذلك، كان الله قبله، وكان الله إذا لم يكن العرش قديما ولا عرش له، فدخل عليهم في ذلك ما أخزاهم، وبَيَّن جهلهم فيه وعماهم، وأظهر كذبهم فيه وافتراهم، وقلة رشدهم فيه وهداهم. والحمد لله رب العالمين على ما بيَّن من عماية العمين، وتولى من هداية المهتدين.
وفي مثل ذلك من الأمثال، وما يراد به غيره من المقال، ما يقول الأول:
وإنا لتستحلي المنايا نفوسنا .... وتترك أخرى مُرَّة ما تذوقها
وقد يعلم أن المنايا لا تستحلى ولا تُستمر، وأن النفوس لا تحلو في ذوق ولا تَمِرّ.
وقوله:
وشَيَّب رأسي قبل حين مشيبه .... رعود المنايا فوقه وبروقها(1/355)