قيل: أما فوقهم، فهو على الحُمال ورؤوسهم، وأما ثمانية فإني أحسب - والله أعلم - أن أكرم ما كان يعرف الأولون عندهم من العروش والكراسي، التي كانت تتخذ فيما خلا لملوك الأمم في الزمان الماضي، ما كان من العروش ذا ثماني قوائم في كل ركن منه قائمتان، فتلك قوائم حينئذ ثمان، قائمتان في كل طرف من الطرفين، وقائمتان في كل جانب من الجانبين.
ولما كان - عند الأولين حمل ثمانية حُمَّال، عرشَ كلِ ملك ذي قدرة في المملكة والجلال، أكبر في التعظيم والإجلال، عند الحُمَّال وعند غيرهم من أهل المملكة، ومن وصل إليه ذلك من الجبابرة المتملكة، أن يكون عرش الملك محمولا على الرؤوس، وكان ذلك أجلَّ للمك في النفوس - كانت كل قائمة من قوائم عرش الملك إذا حمل العرش محمولة على رأس حامل واحد، فتلك - يا بني هداني الله وإياك - حينئذ ثمانية سواء في العدد، فهذا والله أعلم عندي وجه التسمية، لما سُمي في الحمل للعرش من الثمانية.
وإنما ضرب الله للعباد الأمثال بما يعرفون من الأشياء، على قدر ما قد رأوا منها في الدنيا، التي لم يروا قط شيئا إلا فيها، ففهمهم الأمثال بها وعليها، وبالله - لا شريك له - نستعين على ما أبان وبيَّن من قصص آياته وأحاديثها، وقديم دلائله وحديثها.
ومن ذلك يا بني الأمثال التي مثَّلّها، وفصَّلها تبارك وتعالى في كتابه ونزَّلها، ما يقول سبحانه:?والتفَّت الساق بالساق ? [القيامة: 29]. لا يتوهم الساق ساق رِجْلٍ، أحد ممن له أدنى عقل.
وقال سبحانه:? فإذا نقر في الناقور ? [المدثر: 28]، ولا يتوهم أحد ذلك كالناقور المنقور.
وكذلك قوله جل ذكره:? ونفخ في الصور ? [الكهف: 99]. ولا يتوهم بوقا ولا قرنا من القرون، إلا كل مختل من الناس مجنون.(1/346)
ومثل ذلك قوله:? على شفا جرف ? [التوبة: 109]، ولا يتوهمه جرفا من الجرفة، إلا من لم يهبه الله في ذلك شيئا من الهدى والمعرفة، وإنما الجرف من الأرض المعروف، جانب الوادي أو ما كان من الأرض له حروف.
وفي مثل ذلك من الأمثال، ما تقوله قريش للرسول عليه السلام:? قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ? [فصلت: 5]. ولا يُتوهم الأكنة أغطية ولالُبسا، ولايتوهم الوقر صمما ولا ما ذكره الله من بُكم الكفار خرسا، إذ يقول سبحانه:?صم بكم عمي فهم لا يرجعون ? [البقرة: 18]. ولا الحجاب سترا مضروبا، ولا بنيانا من الأبنية منصوبا.
وفيما ضرب الله من الأمثال ما يقول سبحانه:? أم على قلوب أقفالها ? [محمد: 24]. ولا يتوهم ذلك أقفالا من حديد، إلا كل أخرقٍ أحمقٍ بليد.
وما في هذا من الأمثال والبيان، فيما جعل الله للعرب من اللسان، فيكثر عن الاستقصاء، والتعديد له والاحصاء، لا يلتبس - والله محمود - على من يعقل وإن لُبِّس وغُطِّي، ولا يخفى مخرجه وبيانه إلا على مَن ضلَّ وعمي، فنعوذ بالله من العمى والضلال، عما ضرب الله - برحمته - لنا من الأمثال. فكم من جاهل حائر قد عمي !! يرى أنه في جهله قد هُدي، أوسامري يقول لامساس، لايعرف البيان ولا الالتباس، كالبهائم الغافلة المهملة، التي لا تفرق بين هادية من الأمور ولامضلة، فهم كما قال الله سبحانه لقوم يعقلون: ? أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ? [الأعراف: 179].
قلت: فما تأويل:?حآفِّين? ؟!(1/347)
فقال: ما حآفُّون في التأويل إلا كالكرسي والعرش وحملته في التمثيل، والملائكة – يا بني – فحآفُّون يومئذ بمقام الحكم والتفصيل، كما قد عرف أهل الدنيا، أن الملك منهم إذا حكم وقضى، أحف بعرشه الذي هو الكرسي يوم يحكم ويقضي، من يختار من أهل مملكته ويرتضي، فمثَّل سبحانه لهم مقام حكمه وفصله، بما قد عرفوا في الدنيا من مثله، وليس يتوهم مَن يعقل العرشَ والكرسيَّ سريرا محمولا، ولا منبرا منصوبا معمولا.
ومثل ذلك مما يعرف الناس من الأمثال في أمورهم، قوله سبحانه:?وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ? [الأنعام:31]، فذكر سبحانه ما ذكر في هذا الذكر من الأوزار والحمل، ولايتوهم ذلك من له أدنى عقل، حملا كحمل الأحمال، على ما يعرف من ظهور الجمال، ولا كعبء محمول، ولا كور منقول، وإنما هو مثل من الأمثال معقول، تعرفه الألباب والعقول، وقد علم الناس أن كل عبء أو وزر، إنما يحمل على عنق أوظهر.
وكذلك قوله سبحانه:?إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ? [الكهف:29]، ولايتوهم السرادق كما يعرف في الدنيا من السرادقات، ذوات الأوتاد والأطناب والرواقات، إلا جاهل عمي، أحمق بَهمِيٌّ.
وكذلك لايتوهم قول الله سبحانه:?إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ? [الفتح:10]، فلا يتوهم أحد له لُبٌّ أن ماذكر الله من ذلك منهم وفيهم، على أن لله يدا ذات بنان مصافحة للمبايع رسوله، صلى الله عليه وآله.
ولا يُتوهم قوله سبحانه:?قاتلهم الله ? [المنافقون:4]. على مايعرف من المقاتلة، التي تكون بين المقتتلين عند المواثبة والمصاولة.(1/348)
ولايتوهم قوله سبحانه:?إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة? [التوبة:111]. ولا قوله:?فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به? [التوبة:111]، ولا ماجرى في البيع والشراءمن هذا ومثله، على مايعرف من المتبايعين، والمشترين والبائعين، فيمعاني المبايعة، والشراء والمساومة، كيف يكون ذلك وما اشترى سبحانه منهم من أنفسهم وأموالهم، فهو له تبارك وتعالى لا لهم، فهل يعرف أن مشتريا يشتري ماهو له ؟! إلا الله - بكرمه - جل جلاله !!
وكذلك لا يتوهم قوله سبحانه لنوح صلى الله عليه:?واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ? [هود:37]. ولا قوله:?خلقنا لهم مما عملت أيدينا ? [يس:71]. على أن لله تبارك وتعالى أعيناً . ولا أيدياً كثيرة، ولاكما تعرف الأعين كبيرة ولا صغيرة، وأيدي ذوي الأيدي كلهم من الآدميين طويلة أوقصيرة، ولايعرف الناس الأعين والأيدي إلا ما كان كبيرا، ولا أن شيئا من الأيدي يكون أبداً إلا طويلا أو قصيرا، ولا يعرف الناس أجمعون، فيما رأوا ولا فيما يصفون، أن شيئا من ذلك، يكون أبدا إلا كذلك، ولكنها أمثال مَّثلها تبارك وتعالى لعباده بما يعرفون، ليس في شيء منها تشبيه لله بما يقول الجهلة بالله ويصفون.(1/349)
والإحفاف يا بني فهو الإحاطة، والإحاطة فهي الإحداق والإدارة، وفي إحاطة الله بالأشياء كلها، من أواخر الأشياء وأوائلها، ما يقول سبحانه:?إن الله بكل شيء محيط? [فصلت:54]. ?والله من ورائهم محيط? [الروم:20]. والمحيط من الأشياء بما يحيط به، فهو المحِفُّ المحدق بجميعه، المدير بكل ناحية من نواحيه، من جوانبه كلها ومن خلفه ومن بين يديه، ولا يتوهم إحاطة الله - تعالى ذكره - بالأشياء كذلك، والعرش والكرسي وحمله والإحفاف به فمثل ذلك، ولا يتوهم كما يعاين ويرى، من أمور أهل هذه الدنيا، وإنما إحاطة الله بالأشياء قدرته عليها، وسلطانه جل ثناؤه فيها، لا يُتوهم ذلك من الله العزيز الخلاق، كما تُعرف به الأشياء من الإحفاف والإحداق، الذي يكون من الأشياء، ويرى من أهل هذه الدنيا، تقدس الله وتعالى، عن أن يكون شيء له مثالا.
وكذلك قوله سبحانه:?وكلم الله موسى تكليما? [النساء:64]، ?ولما تجلى ربه للجبل جعله دكا? [الأعراف:134]، ?وجاء ربك والملك صفا صفا? [الفجر:22]. فلا يتوهم في ذلك كلامَه، من قرَّر في قلبه توحيدَه وإعظامَه، ككلام الإنسان، بشفتين ولسان، ولا يتوهم - تجلِّيه للجبل كتجلِّي ما نرى، من تجلِّي أهل هذه الدنيا، إلا من لم يكن به تباركت أسماؤه وتعالى عارفا، ولا له بما وصف به نفسه من الوحدانية واصفا، ولا يتوهم مجيئه مجيء غائب، ولا كمجيء ماش ولا راكب - إلا من لم يكن مؤمنا، ولا بوحدانيته ولا بربوبيته موقنا.
وكذلك فينبغي لمن علم أو جهل، أن يتوهم الكرسي والعرش والإحفاف والحمل، على خلاف ما يعرف من الأشياء كلها، لفرق ما بين الأشياء وجاعلها، في كل صفة ومعنى من معانيها، وكلما يعرفه عارف فيها. وبذلك ـ والله محمودٌ ـ بَانَ توحيدُه، ووجب على العباد تمجيده، ومن التبس عليه ذلك التبس عليه التوحيد، ولم يصح منه لله جل جلاله تمجيد، وكان بالله سبحانه جاهلا، وفي ادعائه لتوحيد الله مبطلا.(1/350)