ومن إيلاجه سبحانه الليل في النهار، وما قدر بهما من المواقيت والأقدار، وتسخيره سبحانه للشمس والقمر، اللذين بهما دبَّر مسيرَ الفلك في البحار كل مدبَّر، كان لتدبيره ـ في المسير بهما في بحر ـ حكمة، أو فيهما لفلك بعد الله من نجاة عصمة، لما جعل سبحانه فيهما من الضياء، وبَصَّر بهما في المسير من القصد للأشياء، وبصَّر تبارك وتعالى بغيرهما، إذ فُقِدَ في ظلم الليل ما جعل من البصر بتسخيرهما، من النجوم السُّيَّر التي جعلها الله هدى للسارين في الظلمات، سَرَوا في البحار أو كان سراهم في الفلوات. كما قال الله سبحانه: ? وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلما ت البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ? [الأنعام:97].(1/31)


وتسخير ما ذكر الله سبحانه من الشمس والقمر، وتسخيره لغيرهما من النجوم السٌّيَّر، فظاهرٌ بحمد الله غير متوارٍ ولا خفي، يبصره عيانا كل ذي عقل حيِي، لما فيها من آيات التسخير، وبَيِّنِ ما معها من دليل التدبير، بتفاوت نورها، وغيره من أمورها، في السرعة والابطاء، والظهور والخفاء، والرجوع والتَّحيرُّ، والدأب في التدَّوُّر، فهي راجعة في المسير ومتحيِّرة، ومقبلة بالدؤوب ومدبرة، فهذه حال المسخَّر غير مرية ولا شك، جرى بها فلكها أو كانت جارية بأنفسها في الفلك. والتفاوت بينها في الضياء، فكغيره من التفاوت بين الأشياء، ولا يقع حكم التفاوت، أبدا بين متفاوت، إلا كان له وفيه، من فاوت بينه في حاليه، وكان مملوكا اضطرارا غير مالك، وكان ملكه لمن أسلكه من التفاوت في تلك المسالك. وكذلك حال تفاوت هذه النجوم، يجري من الله فيه بحكم محكوم، ولله سبحانه من ملكِ كل نجم وفلك ماله من ملك كل مملوك، و الحمد لله إله الآلهة وملك الملوك، ومدبر كل نجم وغيره، بما لا يخفى من أثر تدبيره، في الهيئة والتصوير، والمقام والتحيير والتيسير، ذلك قوله سبحانه فيما وصفنا من قدرته على خلق الواحد المشتبه من شتيت الأصناف، وخلقه للكثير المختلف من الواحد الذي ليس بذي اختلاف، وما وَلِيَ الله سبحانه من تدبير النجوم وتسخيرها، وإجراء الفلك في مختلف البحار وتسييرها، وإيلاجه سبحانه الليل في النهار، وتقديره لذلك كله بأحسن الأقدار، ? وَماَ يَستَوِي البَحْرانِ هَذَا عَذْبٌ فُراَتٌ سَاِئغٌ شَرابُهُ وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ? [فاطر12-13]. فصدق الله تبارك وتعالى، ذو الملك والقدرة والأمثال العُلا، إنه لهو الله(1/32)


ربنا، ومَنًّا منه كان خلقنا وتركيبنا، له الملك ومنه عجيب التدبير، ومن دُعي معه أو دونه فما يملك من قطمير، والقطمير: فأصغر ما يملكه متفرد به مالك، أو يشرك مليكاً في ملكه مشارك.
فكل ما ذكر الله من هذه الأمور، فَنيَرِّ بَيِّنٌ غير مستور، يشاهده ويحضره، ويعاينه ويبصره، مَن آمن بالله شكرا، أو صد عن الله كفراً.
أو لا تسمع قوله سبحانه: ?أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون، وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً سبلا لعلهم يهتدون، وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون، وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ? [الأنبياء 30 –33]. ففتقُ السماوات والأرض فيهن ظاهر لا يتوارى، يراه ويعاينه كل ذي عين ترى، وما يُعَايَنُ فيهن ويرى فتقًا، فشاهد على أنهن كنَّ قبله رتقًا، إذ لا يكون فتق إلا لمرتَتَق، كما لا يكون رتق إلا لمفتَتَق، ولا فتح إلا لمنغلق. ولا بد يقينا لكل مفتوق من فاتقه، كما لابد لكل مفتوح من فاتح أغلاقه، وما جعل الله من الماء من الحيوان، فموجود ما ذكر الله منه بالعيان؛ لأن كل شجرة حية قائمة، أو دآبة ناطقة أو بهيمة، فمن الماء جَعْلَتُها، وبه قامت جبلتها.
ألا ترى أن الشجرة إذا فقدت من الماء غذآءها، وفارق الماء قلبها ولحاها، يبست فماتت، وانحطمت فتهافتت، فذلك الدليل على أن من الماء جُعلت، إذ كانت إذا عد م الماء عدمت.
أولا ترى أن لولا مياه الذكران والإناث التي هي النطف، إذاً لما وجد من البشر والبهائم طارف يطرف، فذلك الدليل على أنهم من الماء جعلوا، إذ كان الماء إذا عدم عدموا، وذلك قوله سبحانه: ? فلينظر الانسان مما خلق، خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب ? [الطارق 5 – 7]. وقوله: ? وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً ? [الفرقان 5:4].(1/33)


[حكمة خلق الجبال]
وما جعل الله سبحانه في الأرض من رواسي الجبال، وغيرها مما ثقَّلها به من الأثقال، كيلا تميد بمن عليها من الانسان، وغيره من أنواع الحيوان، الذي لا بقاء له ولا قوام مع الميَدان، فموجود بأيقن الايقان، إذ توجد بالعيان الأفلاك تمر من تحت الأرض دائرة، وتخفى بممرها تحتها وتظهر عليها سائرة، ولا يمكن أن يكون مسيرها، تحتها ومقبلها ومدبرها، إلا في خلاء أو عراء، أو هواء أو ماء، وأي ذلك ما كان مسيرها مقبلها ومدبرها فيه، احتاج مَن على الأرض مِن ساكنها إلى ما جعلهم محتاجين إليه، من تثقيل قرارهم بما ثقَّله الله من رواسي الجبال، وغيرها مما ثقلها به سبحانه مما عليها من الأثقال، لكيما تكون كما قال الله: قرارا، ولما جعله الله خلالها انهارا، ولو لم تكن سكنا قآرا، لما احتملت من أنهارها نهرا، ولو مادت لاضطربت غير مستقرة ولا هادية، ولو لم تستقر وتهدأ لكانت أنهارها متفجرة غير جارية، لا ينفع ما جعل الله حاجزاً وبرزخا، وحبسا ثابتا مرسخاً، بين منسبح عذب مياهها وملحه، ومُفسِد أمورها ومُصلِحه، فاختلط فراتها بأجاجها، وبطل ما جعل فيها من سبل منهاجها، حتى لا يكون لفلك فيها سبيلُ مَسِير، ولا لطامي جم مياهها صوتُ خرير، ولو كان ذلك، فيها كذلك، لكان فيها من فساد التدبير، وجفاء الفعل في حسن التقدير، ما لا يجهل ولا يخفى، لكنه تبارك وتعالى ألطفُ في التدبير لطفا، وأعلمُ بالأمور كلها عِلما، من أن يدبر إلا محكما. ألم تسمع لقوله سبحانه: ? أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ? [النمل:61].
فإن قال قائل: فما جعل من الأثقال عليها والجبال لا يزيدها إلا ثقلا، وكل ما ازداد ثقلا هوى وذهب سفلا، فنحن إذن نهوي سافلين، وقد نرانا بالعيان عالين، فهذا من القول تناقض واختلاف، لا يصح لذي لب به إقرار ولا اعتراف ؟!(1/34)


قلنا: قد قيل فيما تحت الأرض وما يحملها، ويمسكها بحيث هي ويقلها، أقوال كثيرة غير واحدة، قالتها فرق ملحدة وغير مخلدة.
فمنهم من قال تحت الأرض خلاء، ومنهم من قال تحتها هواء، ومنهم من قال تحتها لج ماء، ومنهم من قال ليس تحتها شيء من الأشياء، وهي غاية الثقل ومنتهاه، وكل ثقيل فإليها انتهاه، فليس لجِرم من الأجرام ثقلها، ولا شيء من الأشياء في الثقل مثلها، فهي أثقل الأثقلين، وأسفل الأسفلين، وما كان وهو أخف منها، فغير شك أنه مرتفع عنها، أو قآرٌ عليها، أو داخل فيها، وقرارها بحيث هي زعموا قرار طبيعي، ومنهم من قال إن قرارها بحيث هي قرار موضعي، وإنها إنما ثبتت بحيث هي من موضعها، واستقرت ثابتة في موقعها، لأنها زعموا معتدلة في الوسط، غير مائلة إلى جهة من الجهات بفرط، مستوية كاستواء كفة الميزان، ممتنعة لاستوائها عن الميلان، يمينا أو شمالا، أو علوا أو سفالا، وقال حشو هذه الأمة المختلف، الذي لا يفقه ولا يتصرف، قرار الأرض زعموا على ظهر حوت، ونعتوا حوتها في ذلك بألوان من النعوت، وأشبه هذه الأقوال عندنا بالحق، وأقرب ما قيل به فيها من الصدق، أن يكون ما تحت الأرض خلاء منفهقا، وهواءً من الأهوية منخفقا، ليس فيهما لسالكهما رد يرده، ولا للمقبل والمدبر فيهما صد يصده، لقول الله سبحانه: ? وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون ? [الأنبياء:33].(1/35)

7 / 201
ع
En
A+
A-