وتأويل الكرسي والعرش لرب العالمين، فغير تأويليهما في الآدميين، لأن تأويلهما في بني آدم، وفيما يحاط به لهم فيهما من العلم، إنما هو مقعد المَلِك، وآلة من آلات المُلك، يُحمل للملك أو يوضع، له دعائم ثماني أو أربع. والكرسي والعرش لله فإنما هما ملك الله وسلطانه، وتَمكُّن الله من الأشياء واستمكانه، وقدرة الله سبحانه وملكه منها لما لم يكن كقدرته وملكه لما قد كان، وذلك فما لا يصف به - من قال صدقا - إلا الله الرحمن، وكل من اعتقد التشبيه لله بشيء في وهمه، فقد برئ من الإيمان بالله وحكمه، وزال عنه اسم التوحيد، وكان منه أبعد بعيد، لا تحل له ذبيحة، ولا موالاة ولا مناكحة.
وفي العرش وما ذكرنا من أمره، وما قلنا به فيه من التأويل عند ذكره، وأنه هو القدرة لله والملك، الذي ليس فيه لغير الله شرك، ما يقول الله لا شريك له:? فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ? [المؤمنون: 116]. ويقول سبحانه لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله، :? فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ? [التوبة: 129]، وتأويل - إن شاء الله - ذلك الصحيح المستقيم، إذ هو العرش العظيم الكريم، فإنما هو كرم ملك الله وعِظَمُه، لا طول العرش ولا عرضه ولا ضِخَمه، وما في عظمه لو كان كما قالوا وطوله وعرضه، مايكون به وإن عظم واتسع أعظم ولا أوسع من سماء الله وأرضه، ولو كان ذلك، كما قالوا كذلك، لكان عظمه في الإكبار والإجلال، دون عظم السماء والأرض والجبال.(1/341)


وإني لأحسب - والله أعلم - أن الهدهد حين أنبأ، بِعِظَم عرش ملكة سبأ، ما أراد بالعرش وذكره، إلا عظم ملكها وكبر قدره، ألا تسمع قوله:?وجئتك من سبأ بنبأ يقين، إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم ? [سبأ: 22 – 23]. فذكر ملكها لهم وماأوتيت وهو ماأعطيت من كل شيء ثم قال:?ولها عرش عظيم?، وهذا إن كان إياه أراد كما قلنا فهو الإكبار لها والتعظيم، وإلا فما عظم عرشها أوسريرها، من التعظيم لها أولأمرها، ومن الكبر لقدرها.
وقوله سبحانه: ?ذو العرش ?[غافر: 15]. فتأويله: ذو الملك لا يتوهم ذلك كرسي منصوب، لقوائمه في جوانبه ثقوب. ومثل ما ذكرنا في العرش من التمثيل للعباد بما يعرفون، لا على ما يعلمون من خوآص أحوالهم ويوقنون، مما جل تبارك وتعالى عن مماثلتهم فيه، أو أن يقع شيء من حقائق صفاتهم به عليه، ما يقول سبحانه: ?وترى الملائكة حآفين من حول العرش ? [الزمر: 75]. وذلك فمقام الحكم في يوم القيامة والبعث وموقف الجزاء، ثَمَّ مِن الله والقضاء، بدائم السخطة منه والارتضاء.
وفي ذلك أيضا ومثله، من موقف حكمه وفصله، ما يقول سبحانه:?ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ? [الحاقة: 17 – 18]. وذلك فيوم العرض للعباد على المليك، العلي الذي علا وتقدس عن مشاركة كل شريك، يمثل ذلك سبحانه لهم بما قد رأوا، وعرفوا وأبصروا، من ملوك الدنيا إذا عرضوا، فحكموا وقضوا، كيف تنصب لهم يوم ذلك عروشهم وكراسيهم، للقضاء في أهل مملكتهم ومَن تحت أيديهم.(1/342)


وكل ما أمكن في العرش والكرسي من التمثيل، فقد يمكن - والحمد لله - في حملة العرش مثله من التأويل، وكذلك فقد يكون ذكر الله العرش وحملته من التمثيل، في موقف الحكم والقضاء والتفصيل، على ما قد رأوا من ملوك الدنيا وعرفوا، لا على ما قال الجاهلون بالله ووصفوا. وكما جاز ذكر العرش للقضاء والفصل، فقد يجوز مثله فيما ذكر للعرش من الحمل، ولا تقبل العقول، أن الله محمول، كما يُعرف من حمل شي، على سرير أو عرش أو كرسي !! ومن قال بذلك واعتقده فهو بالله من الجاهلين، وعن المعرفة لله من الضآلين.
وكيف يُتوهم مَن رفع تبارك وتعالى السماوات بغير عمد، وأمسكها وأقامها في الأهوية بغير عُلَق ولا سند، كما قال سبحانه:?إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ? [فاطر: 41]. وقال تبارك وتعالى:?رفع السموات بغير عمد ? [الرعد: 2]. ثم قال جل ثناؤه ?ترونها?، يعني سبحانه تعاينونها وتبصرونها، غير معمودة من تحتها بعَمَد، ولو كانت كذلك لرأى ذلك من أهل الأرض كل أحد، فكيف يكون مَن حملها سبحانه محمولا، أو يكون ذلك عليه في القول مقبولا ؟!
وما ذكر سبحانه من العرش والكرسي، وبُعدِه في ذكرهما من مشابهة كل شي، إلا كما ذكر سبحانه من إمساكه وإقامته، لما ذكر من أرضه وسمواته، لا يتوهم إمساكه لذلك ببنان ولا كف قابضة، تقدس في ذلك عن كل صفة محدثة عارضة، ولئن لم يتأولوا العرش لرب العالمين، إلا على ما رأوا من عروش الآدميين، مالهم أن يتأولوا رفع السماوات والأرض إلا على مثال ما يعرفون، من الآدميين ويتوهمون.(1/343)


وكذلك يلزمهم أن يتوهموا صنع الله جل ثناؤه لِماَ صنع، كصنع مَن خَلقَ الله من الآدميين وابتدع، فيشبهون الله تعالى بالخلق، ويقولون عليه بغير الصدق، فَيَبِينُ بإذن الله أمرهم، ويظهر بالله كفرهم، ولا يخفى شركهم ولا يستَتِر، ولا يتوارى عند من عرف الله ولايستسرّ، فنستجير بالله من العمى والضلالة، ومن الحيرة عن الله والجهالة.
وما الذي ذكر الله سبحانه في التمثيل من عرشه وحمله، إلا كما ذكر الله من حبله، إذ يقول تعالى:?واعتصموا بحبل الله جميعا? [آل عمران: 103]، و?ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس ?[آل عمران: 112]، فهل يُتوهم ذلك حبلَ مسد، أو حبلا من سواه يحصد.
ومثل ذلك قوله سبحانه:?ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ? [البقرة: 256]. فهل يتوهم أو يرى، أن ذلك عروة من العرى، التي تكون من شعر، أو ليف أو لحاء من شجر، قد أُمِرَّ ذلك وعقد، بما يعرف له من المِرَّة والعقد، فلا يتوهم ذلك - والحمد لله - ولا يراه، أحد من خلق الله رأيناه ولا علمناه.
و[ما] ما ذكر الله من العرش والكرسي وحُمَّاله، إلا مثلٌ ضربه الله من أمثاله، فرحم الله عبدا فَهِمَ عن الله وحَقِّه، فنفى عنه شبه جميع خلقه، ولئن لزم الكرسي والعرش أن يكونا كالكراسي والأسرة المنصوبة، ليلزمنَّ مثل ذلك في تأويل رفيع الدرجات فتكون الدرجات عتبة بعد عتبة، وذلك فما لا يتوهمه صحيح سوي، ولا ضعيف في العلم ولا قوي. وما ما يسمع من هذا ومثله إلا أمثال مضروبة، فهي والله المستعان في قلوب الجاهلين بالله محرفة مقلوبة، فهم فيها - والحمد لله - لا يعقلون ولا يعلمون، كما قال الله سبحانه:?وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ? [العنكبوت: 43].(1/344)


وفي ذكر التمثيل والأمثال، ما يقول الله ذو العزة والتعال:?وقد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ? [النحل: 26]. فذكر الإتيان وليس يُتوهم إتيان الله إتيان مجي، ولا يُتوهم ما ذكر من البنيان [أنه] بنيان مبني، ولا يُتوهم السقف الذي ذكره الله سقفا مرفوعا، ولا قواعد بنيانهم التي هي أساسه أساسا موضوعا، من حجر، ولاطين ولامدر، ولكنه مثل وتمثيل صادق، مثَّله العزيز الصادق الخالق، الذي أصدقُ الأقوالِ أقواله، وأصح الأمثال أمثاله. وكذلك فقد يمكن ما قلنا وفسرنا، في الكرسي والعرش على ما مثَّلنا وذكرنا.
ولفي التمثيل لهم بما يعرفون من الأمثال، ما يقول في كتابه ذو الكبرياء والجلال: ?ختم الله على قلوبهم ? [البقرة: 7]. فلا يتوهم ختم بخاتم ولاطين، ولايتأوله كذلك من يفرق بين لَبسٍ وتبيين.
ومثل ذلك قوله سبحانه:?وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ? [الأنعام: 25]. ولا يتوهم أحد وإن جهل وجفا، الأكنة أغطية وغُلفا.
وكذلك قوله، جل جلاله: ? واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ? [الإسراء: 24]، و?اضمم إليك جناحك من الرهب ?[القصص: 32]، فهل يتوهم الجناح في ذلك كله كجناح طائر، إلا كل أحمق من السامعين عَمٍ حائر. وما في هذا ومثله من الأمثال، فيكثر عن أن نذكره في مقال، فنعوذ بالله من العمى والحيرة، ونستمتعه بما وهبه من الهدى والبصيرة، فإنا في دهر عمٍ تمكن فيه الجهلة العمون، فقالوا على الله تبارك وتعالى بما لا يعلمون، وخرجوا بمقالتهم في الله من حقيقة توحيد الله وهم لا يشعرون.
فإن قال قائل: فما وجه التسمية، في الحمل للعرش لعدةٍ ?ثمانية?، وما تأويل ?فوقهم? ؟(1/345)

69 / 201
ع
En
A+
A-