فَمَنْ لم يكتف بذلك في المعرفة بالله فلا كُفِي، ومن لم يشتف ببيان الله فيه فلا شُفِي، ففيما بَيَّن الله من آياته في ذلك ما يقول سبحانه للمؤمنين والذين لا يعلمون، إذ قالوا: ?لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون? [البقرة: 118]. فنسأل الله أن ينفعنا ببيانه، وبما نَزَّل من فرقانه.
ومن البيان في ذلك والنور، قول داود عليه السلام في الزبور: ( سبحان الله القدوس الأعلى، ورتلوا أسماءه الحسنى العُلى، مُصطِفي إسرائيل الفعال لما يريد من الأشياء، في ا لبحار والأرض والسماء، الذي أنشأ برحمته السحاب، وجعل البرق والرياح الهوآب، وغرَّق فرعون وجنوده في البحر، وأظهر ما أظهر من عجيب آياته بأرض مصر، وقتل ملوك الجبابرة ملك الموراسر وملك نيسان، وكل من كان من عتاة ملوك بني كنعان، وأعطى إسرائيل أرضهم عطية، وهبها لهم هبة هنية ).
وما في نفي التشبيه عن الله بخلقه في الإنجيل، فكثير بحمد الله غير قليل، ولولا كراهتنا للتكثير في الكتاب والتطويل، لذكرنا إن شاء الله بعض ما فُسِّر في ذلك من الأقاويل.
ثم قوله سبحانه فيما فسر المفسرون من التوراة الذي لا كقول، والذي هو أصدق الصدق وأفضل الفضول، إذ قال لموسى صلى الله عليه، إذ ناجاه في مصيره إليه، :( يا موسى إني أنا الله)، مرتين اثنتين، زيادة من الله له في التعريف والتبيين، ( إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسحاق ويعقوب)، تعريفا له من وحدانيته وإلهيته بما ليس في شيء منه شرك لمربوب.
فهل تسمع لله سبحانه أو لأحد من رسله من قول، في وصف لله تعالى بَعَرض أو طُول ؟! بل وصف نفسه جل ثناؤه، ووصَفَه رسله وأنبياؤه، بالوحدانية والقدرة والجلال، لا بحسنصورة ولا هيئة ولا حلية ولا جمال.(1/336)
والصورة يا بني فلا تكون أبدا إلا من صانع مُصوِّر، وما في الصورة من أثر التقدير والتدبير فلا يكون إلا من مُدبِّر مقدِّر، فسبحان البارئ المصور الذي ليس بِمَبْرُوٍّ ولا مصوَّر، والمقدِّر المدِّبر الذي ليس بمقدَّر ولا مدَّبر !! وتعالى الله رب العالمين، وأكرم الأكرمين، عن أن يوصف بصور الآدميين، أو مشابهة شيء من المخلوقين، وكيف يكون الخالق في شيء كخلقه، والمخلوق في شيء ما كان كخالقه ؟! فهذا يا بني ما لا يصح في الألباب، على إله الآلهة ورب الأرباب .
فهل تعرَّف الله قط تبارك وتعالى، إلى أحد من خلقه بحلية من الحُلى، كلا لن يوجد ذلك من الله أبدا، ولن يعرف الله مَن عرفه إلا أحدا واحدا، غير ذي نَواحٍ وأطراف، ولا مختلف في الأوصاف، بل تدل أوصافه كلها على واحد أحد، غير معروف بصورة ولا حلية ولا عدد، ليس له ند يساويه، ولا ضد يناويه، يُستدَل عليه تبارك وتعالى وعلى جلاله، بدلائل لا يحصيها غيره من صنعه وفعاله، فهل يعمى ويصم عما يُرى، إلا من لا يسمع بقلب ولا يَرى، فنحمد الله على ما مَنَّ به في ذلك من الهدى، وعلى ما بصَّر برحمته في ذلك من ضلال أهل الهلكة والردى.(1/337)
[معنى العرش والكرسي]
وبعد فافهم نفعني الله ونفعك، بما أسمعني من البيان وأسمعك، مسألتك عن تأويل ما ذكر الله من كرسيه وعرشه، فما تأويل ذلك عند من يؤمن بالله إلا كتأويل قبضته وبطشه، وما ذلك كله، وفرع ذلك وأصله، إلا ملكه واقتهاره، وسلطانه واقتداره، الذي لا شرك لأحد معه فيه، ولا ملك ولا سلطان لسواه عليه!
ألا تسمع كيف يقول سبحانه:? وسع كرسيه السموات و الأرض ولا يؤوده حفظهما? [البقرة: 255]. وتأويل يؤده: هو يثقله، فهو لا يثقله حفظ ما هو من السماوات والأرض مالك له.
وكذلك تأويل:?إن بطش ربك لشديد، إنه هو يبدئ ويعيد ? [البروج: 12 - 13]. و?يوم نبطش البطشة الكبرى ? [الدخان: 16]. وليس يُتوهم في كبرها، طول ولا عرض في ذرعها ولا قدرها، ولا يتوهم أن القبضة والبطش من الله على ما يعرف من الآدميين ببنان ولا كف، وكذلك لا يُتوهم أن الكرسي والعرش ذو قوائم ووسط وطرف، ألا تسمع كيف يقول سبحانه:?وكان عرشه على الماء ? [هود: 7]. تأويل ذلك: وكان ملكه على الماء، كما كان عرشه الذي هو ملكه بعد خلقه للسماء على السماء.
وكذلك ذكر أن كرسيه قد وسع السماوات والأرض كلها، ولم يذكر أنه جعل الكرسي موضعا لها، بل ذكر أنها كلها فيه، ولم يذكر أنه هو فيها، وكان ذلك من الدلالة على أن الحفظ والملك هو الكرسي بعينه، لا ما يتوهم من عَمِي عن تنزيل الله في ذلك وتبيينه، وإنما ذكر الله الكرسي والعرش دلالة للعباد بذكرهما، على ما ذكرنا - إن شاء الله - من أمرهما.(1/338)
[ضرب الأمثال في القرآن]
وإنما فَهَّم الله جل ثناؤه عباده، وأبان لهم في كثير مما نزل الله من آياته رشادَه، بما ضرب لهم في ذلك من الأمثال، وذكر برحمته من شَبَهٍ ومثال، وأمثالُ الأشياء ومثلها، وفروعُ الأشياء وأصولها، فليست بالأشياء أنفسها، ولا بأعيان ما مَّثل بها، ولكنها أشباه ونظائر يستدل عليها، مَن فكَّر بعون الله فيها.
وفيما ذكر الله سبحانه من ضربه للأمثال، ومافيها للمؤمنين من الهدى والاستدلال، ما يقول سبحانه:?إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم، وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين ? [البقرة: 26]. ولا يهتدي لذلك إلا من اتقى، كما قال تبارك وتعالى، :?الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ? [البقرة: 1-2]. فليس يرتاب - والحمد لله - في الكتاب، أحد من أهل التقى والألباب، فالحمد لله رب العالمين كثيرا، على ما نوَّر لأهل التقى بكتابه من الهدى تنويرا.(1/339)
وفيما ضرب سبحانه للناس من الأمثال، فيما نزل سبحانه من القرآن، ما يقول تبارك وتعالى: ?ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون?[الزمر: 27]. ويقول سبحانه:?وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ? [العنكبوت: 43]. وكذلك فقد يُجوِّز الفكر في الكرسي والعرش، وما ذكره الله له من القبضة والبطش، فنفى عنه جل جلاله في قليل ذلك وكثيره، مشابهة كبير خلقه وصغيره، كما نفى عنه فيما ذكر من صفاته لنفسه، مشابهة جن الخلق وإنسه، كما قال سبحانه: ?خبير بصير ? [الشورى: 27]، ولا يمثل في ذلك من خلقه بالمختبرين المبصرين، وقيل: كبير وقدير ولا يشبه بكبير الأشياء في الطول والعرض ولا بالمقتدرين، وكما قال سبحانه:?فسبح باسم ربك العظيم? [الواقعة: 74]. وقال:?بسم الله الرحمن الرحيم?. ولا يشبه في العِظَم، بِعِظَم جثة ولاجسم، ولايمثل في الرحمة أرحم الراحمين، بمن كان رحيما من الآدميين، ومتى ما توهم ذلك متوهِّم واعتقده في الله، فهو - صاغرا - من المنكرين لله.
وكذلك صفات الله وأسماؤه كلها الحسنى، فتعالى فيها كلها عن شبه الخلق في كل معنى.
وكذلك قبضته وبطشه، وكرسيه وعرشه، فلا يتوهم عرشه وكرسيه ذا قوائم وأركان، ولا يتوهم قبضته وبطشه بكف ذات بنان، ومتى ما توهم ذلك متوهم أو اعتقده في الله، فهو مشرك لاشك بالله، وبريء من توحيد الله ومعرفته، إذ أشرك غيره في صفته.(1/340)