تم كتاب المسترشد والحمد لله كثيرا وصلى الله على سيدنا محمد النبي وأهله الطاهرين وسلم تسليما.(1/331)


تفسير العرش والكرسي
[تنزيه الله تعالى]
سماع علي بن محمد بن عبد الله عن الحسن بن القاسم رضي الله عنه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على كل حال
قال علي بن محمد: حدثني الحسن بن القاسم، عن الحسين بن القاسم رضوان الله عليه، قال: سألت أبي رحمه الله وأرضاه، عن تأويل ما ذكر الله سبحانه، من كرسيه وعرشه ؟
فقال: سألتَ يا بني فَهَّمك الله فاعلم وافهم، وليكن أول ما تعلم فيما سألت عنه وتتفهم، أن يخرج في ذلك كله من علمك وفهمك، كل خاطرة خَطرَت بقلبك، أو وقعت في وهمك، لله فيها بمعنى من معاني خلقه كلها تشبيه أو تمثيل، أو لشيء مما صنع الله كله بالله تسوية أو تعديل، كبير ذلك كصغيره، وقليله كله ككثيره.
فهذا يا بني هو الأصل في توحيد الله المقدم الأول، والقول الصادق على الله وفي الله الصحيح المتقبَّل، الذي لا يقول بغيره في الله ولا على الله إلا كل مفتر أفَّاك، يلزمه في قوله بذلك على الله اسم الجهل بالله والإشراك، وفي توَهُّم كل مُتوَهَّم لذلك على الله الخروج مما نزل الله في توحيده من كل تنزيل، نزله الله سبحانه في القرآن أوفي التوارة أوفي الزبور أوفي الإنجيل.
وتأويل ما سألت يا بني عنه ومعناه، فِأِبْينُ بيان - بحمد الله - لمن فهَّمه الله إياه، وإنما تلَّبس ذلك وأظلم على من لَبَّس فيه على نفسه، فأسلمه الله تبارك وتعالى فيه - صاغرا - إلى حيرته ولُبسه، وسبيل فهمه وعلمه منير مضي، لا يجهله - بِمَنِّ الله - من خلق الله زَكِيٌ ولا رضي.(1/332)


فمن ذلك وفيه، ومن الدلائل عليه، قول الله جل جلاله، عن أن يحويه قول أو يناله، :?ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ? [الشورى: 11]. وقوله سبحانه:?لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير? [الأنعام: 103]. وقوله تعالى:?الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ? [البقرة: 255]. فنفى سبحانه عن نفسه قليل النوم من السِّنة نفيه للكثير، تَبَرِّيا منه وتعاليا عن مشابهة الأشياء كلها في معنى من معانيها كبير أو صغير. والحي: فهو الذي لا يغيره أبد ولا دهر، والقيوم: فهو الدائم الذي لا يُلم به تبدل ولا تغيُّر. وكذلك قال لرسوله، صلى الله عليه وعلى آله : ?قل هو الله أحد الله الصمد?. ثم قال في آخر السورة: ?ولم يكن له كفؤا أحد ? [الإخلاص:4]. والصمد فهو الذي ليس من ورائه مصمود ولا معمد، وليس بعده في جلال ولا كبرياء بعد. والأحد: فهو الواحد الذي ليس بشيئين اثنين، جزأين كانا أو غير جزأين، ولا يُتوهم أبدا سبحانه بمعنيين متغايرين، أحدهما في الجزئية غير الآخر، فيوصفان بالتباين والتغاير.
فلا يخلو كل واحد من الجزأين من أن يكون قادرا على حاله، أو عاجزا عن مبلغ قوة الجزء الآخر في قدرته ومثاله، فإن كان الجزء عاجزا لم يكن ربا ولا قويا، وإن كان قادرا قَدرَتَه كان له في الربوبية مساويا، فكانا جميعا ربين اثنين، وإلهين متساويين، وكان في ذلك الخروج من وصف الله بالوحدانية، ومما وصف به نفسه جل جلاله من التفرد بالربوبية، فلم يكن في قولهم إلها واحدا، وعاد في وصفهم كثيرا عددا.
ومن دلائل الهدى والحق، في بُعد ربنا من مشابهة الخلق، ما يقول الله سبحانه:?هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ? [الحديد: 3]. وكيف يكون لمن كان أولا آخراً ظاهرا باطنا من الأشياء شبيه أو نظير ؟! أو يعتقد ذلك في من كان كذلك أبدا عقل صحيح أو ضمير ؟!(1/333)


وأول الأشياء أبدا غير آخرها، وباطن الأشياء فغير ظاهرها، فكفى بما قال سبحانه في ذلك بيانا ودليلا، على أن لا يكون شيء من الأشياء كلها له شبيها ولا مثيلا.
وفيما من ذلك أبانه، يقول سبحانه، :?هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم، هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون، هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ? [الحشر: 22-24]. فدل سبحانه على نفسه بأنه هو، وأنه لا نظير له ولا كفو.
وكذلك قال من رسله كل من قد عرفه، عندما سئل عنه فوصفه، أو دلَّ مَن جهله عليه ليعرفه، فقال إبراهيم عليه السلام خليله، لمن كان من قومه يجهله، ولمن كان يلحد فيه ويجادله: ? يا قوم إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ? [الأنعام: 79]. وقال صلى الله عليه لقومه، عندما مَنَّ الله عليه به من معرفته وعلمه: ?أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين، الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ?[الشعراء: 75- 82].
وكذلك قال نوح من قبله، صلى الله عليه وعلى جميع رسله: يا قوم ? مالكم لا ترجون لله وقارا، وقد خلقكم أطوارا، ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا، وجعل القمر فيهن نورا، وجعل الشمس سراجا، والله أنبتكم من الأرض نباتا، ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا، والله جعل لكم الأرض بساطا، لتسلكوا منها سبلا فجاجا ? [نوح: 13- 20]. ومثل هذا قوله صلى الله عليه في تعريفه لله مَن جَهِلَه فكثير، في أقله - والحمد لله - لمن أيقن بالله هداية جلية وتبصير.(1/334)


وفي مثل ذلك ما يقول موسى، لفرعون إذ طغى وتعامى، إذ قال:? فمن ربكما يا موسى ? [طه: 49]. فقال صلى الله عليه:?ربنا الذي أعطى كل خلقه ثم هدى ? [طه: 50]. وكذلك قال عليه السلام، عندما دار بينه وبين فرعون في الله الكلام، إذ يقول فرعون:?وما رب العالمين ؟ قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين، قال فرعون لمن حوله ألا تستمعون ? [الشعراء: 23- 25]. فقال لهم إذا قالوا مقالته، وسألوه عليه السلام مسألته:?ربكم ورب آبائكم الأولين ? [الشعراء: 26]. فقال فرعون لهم، عند جواب موسى إياهم:?إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ? [الشعراء: 27]. فقال موسى لهم جميعا:? رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ? [الشعراء:28]. فدلهم في ذلك كله، على الله بصنعه وفعله، ليس منهم من يدل على الله سبحانه بنعت ولا بِحِلْية، ولايصفه جل ثناؤه بصورة ولا هيئة، ولو كان كما قال الضآلون العمون، الذين لا يعقلون ولا يعلمون، على ما ذكروا من صورة آدم، لكانت الصورة من لحم ودم، ولَوَصَفه العارفون به وسموه، بالصورة والهيئة وحلَّوه.
وفي مثل ذلك مِن وصفهِ بصنعه وخلقه، وصدق القول عليه فيه وحقه، ما تقول رسل الله صلى الله عليها، للأمم التي أرسلها الله إليها، إذ شَكُّوا في الله وتحيروا، ولم يبصروا من الله ما بُصِّروا:?أفي الله شك فاطر السموات والأرض ?[إبراهيم: 10]. فما دل الله جل ثناؤه على نفسه، ولا دل عليه العارفون به، بحلية ولا صورة، ولا بهيئة منعوتة ولا مذكورة، ولكن دل سبحانه على نفسه ودلت رسله عليه بخلقه وفطرته، وبما يُرى في ذلك من أثر جلاله وكبريائه وقدرته.(1/335)

67 / 201
ع
En
A+
A-