ويُسألون هل يجوز أن يعطوا سابعاً يدركون به لمسه أو ذوقه أو شمه، كما جوزتم السادسة التي بها تكون الرؤية، ليكون ذلك أتم لنعيمهم إذا لمسوا ما عاينوا وصافحوه وذاقوه وشموه ؟! فإن جوزوا ذلك جعلوه منفصلاً بائناً بعيداً مبعضاً، وفي الانفصال والبينونة والبعض والبعد وجود العجز والنقص، والعاجز الناقص ليس بالكامل التام القوي القادر، وليس العاجز الناقص بإلهٍ، فتعالى الله عن العجز والنقص.
وقد أجمع المصلون معنا أن إلهنا عز وجل لا تدركه الأبصار إلا فرقة من الروافض ووافقتهم الحشوية فقالوا: إن النبي صلى الله عليه رأى ربه أبيض مجمم الشعر.
ورووا من وجهٍ آخر أنه رُؤِيَ في صورة الشاب المراهق مقصصَّاً.
فعزم بعضهم أن هذه الرواية كانت بالقلب، وزعم آخرون أنها كانت بعيان النظر. وقد رووا بخلاف ذلك: أن ثلاثاً من قال واحدة منهن فقد أعظم الفرية على الله، ومن زعم أن محمداً رأى ربه، وفي هذا انتقاض الخبر، وإذا تناقض الشيء لم يكن بحجة، وأولاهما بحجة العقل أشبههما بكتاب الله.
ويقال لهم جميعاً: أخبرونا إذ زعمتم أن النبي صلى الله عليه حين رأى ربه، هل كان يقدر عقل النبي على صفة ما رأى ؟!
فإن قالوا: نعم.
قيل: فكان يقدر أن يخيل ما عاين ؟!
فإن قالوا: نعم جوزوا القدرة على صفة الله وإحاطته والتفكير فيه، والله عز وجل يقول :?ولا يحيطون به علماً?[طه: 110].
وإن قالوا: لا يقدر على تخييله بقلبه.
قيل لهم: فكيف يدرك ما لا يتخيل ولا يحيط به العقل ؟!، وهذا محال بَيِّنٌ؛ لأن الإدراك أكثر من التخيل، وإذا بطل التخيل لم يصح الإدراك.
ويقال لهم: أخبرونا إذا جوَّزتم أن يكون النبي صلى الله عليه رآه، فما يشعركم لعله أَسَرَّ إلى بعض أصحابه صفة تحديد، فَوَرَّث ذلك الصاحب علم التحديد من بعده إلى يوم القيامة فيكونوا لم يدركوه كما أدركه.
فإن قالوا: فقد يمكن أن يكون ذلك فقد عبدتم ما لا تعرفون.(1/326)


ويقال لهم: أليس قد يمكن أن يكون وارثُ ذلك يصفه بصفة تحديد، ويخيله بقلبه على غير ما تخيله ذلك العالم بصفته، فقد عبدتم خلاف ما عبد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
فإن احتج القوم بقول الله تبارك وتعالى :?الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم?[البقرة: 46]. كان جوابنا أن الذين يظنون، أي: يوقنون أنهم مبعوثون بعد الموت للثواب والعقاب.
وكذلك تأويل قوله :?فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً?[الكهف: 110]. وقوله :?فمن كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت?[العنكبوت: 5]. أي من كان يؤمن بالبعث فإن وعد الله ووعيده اللذين هما الجنة والنار لآتٍ، وليس ذلك اللقاء رؤية، ولو كان لقاء رؤية لقال: من كان يرجو لقاء ربه فإن الله يُلاَقَى.
ويسألون عن الذين كفروا بلقاء ربهم [هل يلقونه] فإن قالوا: نعم، لم يفرقوا بين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم في الآخرة، وبين الذين كفروا بلقاء ربهم، لأن هؤلاء لاقوه.
وإذا زعموا أن اللقاء عندهم الرؤية، فما الفرق بين الولي والعدو، إذا كانا يلقيان ربهما واللقاء رؤية، والرؤية عندهم أفضل الثواب.
وإن زعموا أنهم لا مؤمنون ولا مصدقون بتكذيب الكافرين من لقاء ربهم، جحدوا قول الله سبحانه :?يا أيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاً فملاقيه?[الإنشقاق: 6]. وقوله :?فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه? [التوبة: 77]. فقد أخبر أنهم منافقون وأنهم يلقونه، وإذا زعموا أن اللقاء رؤية، فالمنافق والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يريانِه بزعمهم، إذ كان اللقاء عندهم رؤية، فما فضل ثواب النبي صلى الله عليه على عقاب المنافق ؟!
بل لا فضل بينهما إذا اشتركا في أفضل الثواب وهو الرؤية، وفساد هذا المعنى بَيِّن، وذلك لأنهم تأولوا لقاء الله تحديداً بالإحاطة، وزعموا أيضاً أن النبيين عليهم السلام يشتبهون في لقاء الله الذي هو رؤيته، إلا أن يزعموا أن اللقاء غير الرؤية فيصيروا إلى قولنا.(1/327)


وإن هم سألوا عن التأويل للقاء الله ؟
قلنا لهم: إن الأعداء والأولياء كلهم ملاقوا ربهم، ولقاؤهم انبعاثهم من أجداثهم، ومصيرهم إلى معادهم يوم محشرهم، ويومَ إلى الله مرجعهم.
وتأويل ما سألوا عنه من قول الله سبحانه :?إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون?، وذلك أن الله عز وجل لا ينالهم برحمته وهم عن ربهم محجوبون، وتَرْجَمَتْ هذه الآيةَ آيةٌ أخرى قوله :?لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة? [آل عمران: 77]. أي: نَظَرَه إلى أوليائه برحمته، ولا يُسمِعهم كلاماً لهم فيه سرور ولا فرحٌ، ولا ينظر إليهم أي: لا ينيلهم رحمة ولا يأتيهم بفرح.
وقد أجمع أهل الصلاة أن الله لا ينظر إلى أعدائه، وهو يراهم في الحالة التي لا ينظر إليهم فيها، وفي ذلك دليل أن أوليآءه ينظر إليهم أي: يرحمهم، وهو يراهم وينظر إليهم برحمته، ونظره إلى أوليائه رحمته، وذلك نظره الذي كان لأوليائه ولم يكن لأعدائه، وكذلك ينظر أولياؤه إليه لا بمعنى جهرةٍ وإحاطة منهم به، ولكن ينظرون إليه على خلاف التحديد والإحاطة، وقد قالت العرب: ما ننظر إلا إلى سيدنا.
وأجمع المسلمون على الدعاء إلى الله أن قالوا: اللهم انظر إلينا، والدعاء على عدوهم أن قالوا: لا ينظر الله إليهم، وليس ذلك سؤالاً منهم له أن لا يراهم، وذلك أنهم يعلمون أن الله عز وجل يراهم، ولم يعلموا أن الله ينظر إليهم نظر رحمة ورضى، وقد علموا أن الله عز وجل يراهم ويرى كل شيء، وأن الأشياء كلها له جهرة، وإنما أراد المسلمون بدعائهم الله أن ينظر إليهم: أن يكرمهم ويجود برحمته عليهم.
واعلم أن الله عز وجل إذا مدح نفسه بمدحة لم يُزِلْها عن نفسه في آخرة ولا دنيا، كذلك قال الله سبحانه :?لا تدركه الأبصار? [الأنعام: 103]. فالله لا يزيل مدائحه.(1/328)


وزعم العماة أن محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى ربه حين أسري به تكذيباً للقرآن، ورداً على الرحمن، واحتجوا بقول الله عز وجل :?ولقد رآه نزلةً أخرى، عند سدرة المنتهى? [النجم:13 - 14]. فظنوا أنه رأى ربه، وإنما ذلك جبريل صلى الله عليه، رآه نبي الله على خلقته التي عليها جُبِل، ولم يره النبي صلى الله عليهما على تلك الخلقة قط إلا مرتين، جعل الله ذلك آية بينه وكرامةً شريفة عالية، وذلك قوله عز وجل :?لقد رأى من آيات ربه الكبرى? [النجم: 18]. فأين الله عز وجلَّ من آياته ؟! فكيف يتوهم أن النبي صلى الله عليه رأى الله، والله يقول :?رأى من آيات ربه الكبرى?، وليس الله سبحانه بالحوآس مُدركاً .
وتوهموا أن تجلي الرب سبحانه للجبل هو أن بَدَى للجبل وبرز له بذاته، من غير أن يكون للجبل من المقام في طاعته، والمنزلة الرفيعة، ما لموسى صلى الله عليه، مع ما اختص الله به موسى بكلامه تكليماً، واستخلاصه إياه بالرسالة، ثم سأل موسى ومسألته لله أن يراه بزعمهم ذلك، وكان ذلك منه دليلاً، ثم اختص الجبل الذي لم يكن الله كلمه تكليماً، ولا اصطفاه برسالته فبدى له بذاته وبرز له متجلياً، وخصه بكرامةٍ لم يجعلها لجبريل ولا لميكائيل ولا للملائكة المقربين، ولا للمرسلين، وقد قال الله عز وجل: إن أولياءه غداً ينظرون إليه في جواره، ليس ذلك النظر إحاطة ولا تحديداً، بل ينظرون إليه من غير تحديد، وذلك النظر أفضل من دركهم.
والدرك دركان، فدركٌ هو المشاهَدة والملاقاة جهرة.(1/329)


والدرك الثاني ما يرد على القلب، وقد أدرك المؤمنون في الدنيا ربهم وعرفوه بقلوبهم، فلذلك أطاعوه، وذلك لما أحبوه. ولهم في هذا الدرك سرورٌ ولا نعيب عليهم في السرور الذي نالوه من معرفة الدرك لله، والمؤمنون يتفاضلون في الدرك لله، وذلك بَيِّن فيما يرى منهم في اتصال السرور بالمعرفة، على حسب اتصال المعرفة بالقلب، وكلما ترقى العارف في معارج المعرفة ترقى في معارج السرور.
وقد ترى جمهور أمتنا يعلمون أن الله عالم بعلمهم، أن الله عالم، دركاً به عرفوا الله، فهذا الدرك هو درك العلماء بالله، فإذا نزل بهم تفصيل معاني دقائق مسائل تدخل في الكلام في العلم، كان ذلك دركاً هو عند العالمين بالله، الذين هم في معاني درجات العارفين بالله، فإذا أخذوا في ذلك العلم وجدوا في ذلك سروراً.
فالناس لا يستوون في درك الله في الدنيا في تفاضلهم، وكذلك يتفاضلون غداً في إدراك الله، للمعنى الذي ليس هو تحديد الله، فيكون الله يعطيهم من ذلك العلم ما لا يخطر على قلب بشر في الدنيا، مما فيه السرور والتنعم للعالِمين بالله في الدنيا، ما لا يعطي كثيراً من سواهم من العلماء الذي هم دونهم، وقد عرفنا درك المؤمنين في الدنيا كيف هو . وأما درك المؤمنين في المعاد، فإنا لا نعلم كيف هو، لأنا لم نره وهو في الآخرة ثوابٌ، والثواب مؤجل، وكلما كان من ثواب الله في الجنة فلا يعلم كيف هو إلا الله، إلا أنا نعلم أن معنى الدرك له في الجنة ليس بتحديد ولا إحاطة، فاعرف معاني الدرك واعرف فضل الدرك الذي يكون في الآخرة، على فضل الدرك الذي يكون في الدنيا .
ولو أمدّ الله عز وجل الأبصار بالمعونة، حتى تدرك أقل قليلِ نقطةٍ من القطر في مُدلهمِ ليل عاتم تحت الأرض السفلى، من أبعد غايات السماوات العلى، ما أدركت الأبصارُ اللهَ، وكذلك لو أُمِدَّت الحوآس كلها بالمعونات حتى تدرك كل محسوس ما هجم منها شيء على الله سبحانه، تبارك وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.(1/330)

66 / 201
ع
En
A+
A-