ويقال في اللغة: أخبرنا بالخبر على وجهه، ولا يتوهم للخبر وجهٌ على ما يعقل من وجوه البشر، وقال الله سبحانه :?ولكل وجهةٌ?[البقرة : 148]. أي لكلٍّ قِبلة.
وقال آخر في تأويلها: ولكلٍّ ملة.
ويتأول بعض أهل العلم :?من قبل أن نطمس وجوهاً? [النساء: 47]. أي ملَّة نمسخهم يعني أهل الملل، وإنما صارت الملة وجهاً، لأن صاحبها يتوجه إلى الرب بها.
وقال الشاعر:
درست وجوهُهمُ فكلٌ آخذٌ .... غير الطريق وكلهم متحير
فهذا دليل على أن الله أراد بقوله: (من قبل أن نطمس وجوهاً) أي: مللاً.
وقال آخر:
أضحت وجوههم شتَّى فكلهمُ .... يرى لوجهته فضلاً على الملل
وقال عباس بن مرداس السلمي:
أكليب مالك كل يوم ظالماً .... والظلم أنكد وجهه ملعون
وقال الله عز وجل :?بلى من أسلم وجهه لله?[البقرة: 112]. أي من أخلص دينه لله فجعل للدين وجهاً.
وقال الشاعر:
وأسلمت وجهي لمن أَسلَمتْ .... له الأرض تحمل صخراً ثقالاً
وأسلمت وجهي لمن أسلمْت .... له المزن تحمل عذباً زلالاً
وفي ذلك دليل على أنه أراد بالوجه الدين، وقال الله سبحانه :?فأقم وجهك للدين? [الروم: 30]. ولم يرد الوجه دون القلب وسائر الأبعاض، وإنما تأويل أقم وجهك، أي: أقم نفسك للدين، وتأويل أقم نفسك للدين إنما هو: بالدين، وقال الله سبحانه :?وقالت طائفة من أهل الكتاب آمِنُوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النار واكفروا آخره?[آل عمران: 72]. يعني: صدر النهار . وقال بعض أهل العلم: أول النهار. فذكر الله للنهار وجهاً، ولم يرد به وجهاً من الوجوه التي أمر بغسلها عند الوضوء، وقد يجوز في اللغة القول بأن هذا وجه المتاع، وهذا وجه القوم وفاضلهم، وهذا وجه الدار، وهذا وجه الكلام، هذا وجه العمل، معنى قولهم هذا وجه الكلام، أي: صدقه وبيانه، ووجه العمل أي: العمل به صوابٌ. وقال الله تعالى :?ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها?[المائدة: 108] أي: يأتوا بها على صدقها.(1/316)
وتأويل قول الله :?كل شيء هالك إلا وجهه? له معانٍ:
منها ما أريد به وجه الله من العمل الطيب، والقول الحسن.
ومعنى آخر في :?كل شيء هالك إلا وجهه?. إلاَّ هو. ومن أراد هذا المعنى قرأ وجهُه مرفوعاً، وله سوى هذا أيضاً، مَن أراده قرأه مفتوحاً، والمعنى فيه: ثواب الله عز وجل.
وقال الله عز وجل في كتابه :?فاغسلوا وجوهكم?[المائدة : 6]. فمعنى هذا الوجه معنى واحدٌ، وهو الوجه الذي في الناس، وذلك عن الله عز وجل منفيّ، وقوله :?فثم وجه الله?[البقرة: 115]. دليل على أنه الله، لأن الشرقي والغربي بين المشرق والمغرب لا يكون جهتهم جميعاً تلقاء وجه الله، لأن وجهه: الذي هم مقابلون دون ما سواه، فبطل قولهم في تأويلهم :?ثم وجه الله?. وزعموا أن وجهتهم جميعاً تلقاء وجه الله، وبطل قولهم: (خلق آدم على صورة وجه الله)، لأن الصورة وجه، وهي لا تواجه إلا ما كان تلقاءها، ومما يبطل به قولهم في زعمهم، أن الله على العرش دون ما سواه، وأن الملائكة يسبحون من حول العرش، فقد أحاط المسبحون بالمسبَّح، إذ هم حوله، ولا يكون توجيههم وتسبيحهم تلقاء وجه الله . وإن قالوا: إن جهتهم جميعاً، وإن الله هو أينما تَولَّوا، رجعوا إلى التوحيد الأول.(1/317)
(الرد على من زعم أن الله تدركه الأبصار وتحيط به الأعين تعالى عن ذلك)
الحمد لله الذي يدرك الأبصار، ولا تدركه الأبصار، وهو الواحد المتكبر، العزيز القهار :?ليس كمثله شيء وهو السميع البصير?[الشورى: 11]. زعم قوم من أهل الجهل أن العباد غداً يعاينون ربهم جهرةً، ينظرون إليه كما ينظر بعضهم بعضاً، محاطاً به محدوداً، وتأولوا قول الله عز وجل :?وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة?[القيامة: 22]. وقوله :?للذين أحسنوا الحسنى وزيادة?[يونس: 16]. وقوله :?إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون?[المطففين: 14] وقوله: يخبر عن موسى عليه السلام :?رب أرني أنظر إليك? [الأعراف: 43]، ونحنُ مقرِّون بالنظر من أولياء الله في جنته على غير تحديد ولا إحاطة، جل الله وعز وتعالى علوَّاً كبيراً.
والنظر له في لغة العرب معانٍ:
أحدها: أن يلاقي الشيء جهراً، ويحيط به بالعيان بإدراك وتحديد، فيقال نظر إليه، وعُوين وأُدرك وأُبصر وجُوهر.
ومعنى آخر: من معاني النظر لا بالعيان من بصر البصر، ولكن ينظر إليه بأفعاله، ومن ذلك قول العرب: انظر إلى شرائع الدين ما أحسنها، انظر إلى كلام عبد الله ما أفصحه وأبينه، انظر إلى ما صنع الله بعباده، وانظر إلى الذين جابوا الصخر بالواد ماذا صاروا إليه، فتجيب العقول له قد نظرت إلى ذلك كله ورأيته، لا بعيان البصر.
ويقال: إنه قد نظر في لغة العرب وما ينظر فلان إلا إلى الله، ثم إلى محمد، ويقول: ما ينظر إلا إلى عبد الله، وعبدُ الله غائب . ومن ذلك النظر إلى الشيء بأفعاله وآياته لا بروحه وشخصه، وتقول: رأيت نفس زيد حين خرجت لا تريد بذلك نظر العين للروح، ويقال: رأيت عقل زيد صحيحاً، ونظرت إلى عقله، فرأيت عقلاً حسناً .
والعقل روحاني لا يرى بالعيون، لأنه ليس بشبح ولا لونٍ ولا جسمٍ، ويقال: أحسنت النظر وأسأت النظر.
ومن ذلك قول الشاعر:
لا يزال وإن كانت له سعةٌ .... إلى الذي راه لم يظفر به نظر(1/318)
ولذلك تقول: رأيت حلم زيد وعقل عبد الله، وإنما رأيت الحلم والعقل بأفعال لهما، مع أشياء كثيرة، مما يجوز في اللغة، كقولك انظر إلى شدة غضبه، وانظر إلى شدة فرحه، وانظر إلى همه وعداوته، وهذه كلها روحانيات خفيات لا تدرك بأنفسها وقد تدرك بأفعالها، ويقال: رأينا غضبه ورضاه وما أشبه ذلك.
وقال الله :?ألم تر كيف فعل ربك بعاد?[الفجر: 7] والذي قيل له: ألم تر هو النبي صلى الله عليه، وإنما النبي بعد قرون قبلها عاد، فرأى كيف فعل ربه سبحانه بعاد، ولم ير ذلك بعيان جهرة. وقال :?ألم تر إلى ربك كيف مد الظل?[التوبة: 45]. وقال إبراهيم الخليل صلى الله عليه :?رب أرني كيف تحيي الموتى?[البقرة: 200]. وقد رأى كيف أحياه الله من نطفة، ولكنه أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى من وجه من الوجوه، الذي عاين من إحياء الله سبحانه الأجسام الميتة من النطف وغير النطف.
وكذلك سأل موسى صلى الله عليه ربه فقال :?رب أرني أنظر إليك?[الأعراف: 43]. ومعناه ومعنى الخليل صلى الله عليهما في نفس النظر سواء، لأنهما أرادا أن يعاينا بأبصارهما من معالم الله وآياته ما لم يزل الله يملك من العالم والآيات، إلا أن موسى صلى الله عليه عاصٍ فيما سأل مِن قِبَلِ أنه سأل الله آية ليست من آيات الدنيا، ولم يكن له أن يسأل تلك الآية. وسأل إبراهيم ربه آية من آيات الدنيا، فلذلك لم يكن في سؤال الله عاصياً، وإبراهيم وموسى في سؤالهما وقولهما لم يسألا ربهما أن يرياه جهرةً لمعنى ما يرى البشرُ البشرَ، لأن ذلك شرك، ولم يكن إبراهيم وموسى صلى الله عليهما بمشركَين، والله لا تدركه الأبصار، وقد علما ذلك، وكان موسى أعلم بالله من أن يسأل ربه أن يعاينه جهرة، بل أراد: أن ينظر إليه بآية يحدثها له فيراه، ليست من آيات الدنيا، ثم يكون له آية مرتجحة لا يحتملها الناس لو شاهدوها في الدنيا، إلا أن يزاد في قوى حواسهم .(1/319)
فقيل لموسى: إن بنيتك لا تحتمل ما سألت، واعرف ذلك بهذا الجبل فإنه أعظم منك خلقاً، وأشد منك قوة، وأشمخ منك طولاً وعرضاً، انظر إليه كيف يعجز عن إدراك ما سألت مثله، ولم يكن الجبل بذي عقل، والله تبارك وتعالى لا يتجلى إلا بالتجلي الذي به يُدرك، ولن يُدرَك من ربنا إلا جلالته وآياته وتدبيره وصرفه، فبذلك يتجلى الله، وذلك بأنه سبحانه ليس بشخص. أحدث في الجبل عقلاً يدرك به ما يتجلى له، فإن الله تبارك وتعالى أحدث آية فتجلى الله للجبل وجعلها آية سماوية ولم تكن أرضية . وقال بعض العلماء أبرز بعض العرش للجبل، رواه يوسف بن الأسباط، عن الثوري، وذلك قوله :?فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً?[الأعراف: 143]. فعرف الجبل ربه بتجلي الرب له بما أظهر له، فعظَّم الجبلُ الله فبلغ من تعظيم الجبل لله أن تقطع وساخ وذهب. وإن الله جعل ذلك موعظة للقلوب القاسية لتلين، والقلوب الناكرة لتسترشد، ولئن ترجع القلوب إلى ربها بشدة الفكر والتعظيم لله العظيم.
فقال لموسى :?لن تراني?[الأعراف: 143] من وجه ما سألت، لأن التجلي إنما يكون من وجهٍ يُدرَك من المتجلِّي. فتجلَّى الأشخاصُ للأبصار، ولا تجلى لغير الأدوات من الأسماع والآذان والملامس، وقد تجلَّى الأصوات للأسماع، وإنما يتجلى المتجلِّي من وجه ما يُدرَك به، فقد يقول السامع للكلام، قد تجلَّى لي هذا الكلام، ولا يراد به عيان البصر .(1/320)