قلت: لنفي إثباته، وقلت: لا شيء لإخراجه من الوجود، وليس قولي هذا شيء ولا شيء تشبيه ولا غير تشبيه، وقول القائل: هذا شيء، وهذا شيء لا يجب به تشبيه، لأن التشبيه لا يجوز إلا على ضد أو مثل.
واعلم أن الضد هو غير الخلاف، وبيان ذلك أن كل ضد خلاف، وليس كل خلاف ضداً، والضد هو المضآد، والخلاف هو الغير الذي ليس بمضآد، وذلك لأنك تقول: هذا خلاف الله، ولا تقول: هذا ضد الله.
فإن قال قائل: ما بالك إذا قلت: لا شيء لا يقع اتفاق ولا اختلاف ؟
قيل له: من قبل أن لا شيء عدم والعدم ليس بموجود، ولا هو موهوم، ما هو فيكون له شبيهٌ، والشيء إثباتٌ ووجود وموهومٌ إذا قلت: شيء ما هو، وأي الأشياء هو ؟ إلا رب العالمين، فإنه شيء خالق الأشياء، وليس كالأشياء . وإنما قلت: إنه هو شيء لأثبته موجوداً، وقولي: شيء ليس فيه تشبيه، لأني إنما أشيئه بقولي: شيء، وقد يشتبه قول شيء وشيء، ولا يشتبه المسمى، إلا أن أوقع عليه مِن أيِّ الأشياء هو وما هو ؟ فحينئذٍ يشتبه المسميان، فأما شيء وشيء فليس فيه اشتباه المعاني، وإن استوى قول شيء وشيء.
وقد يقال: الخنزير شيء، والكلب شيء، والانسان شيء، وليس [في] هذا الاسم، الذي هو إثبات الشيء منهم مدحً ولا تهجين، إذا كانت التسمية مبهمة مفردة في الذكر، ولذلك لم يقع به تشبيه إذا قلنا: إن الله شيء، والإنسان شيء.
فإن قال: فإذا سميت الله شيئاً فقد سميته بما لا مدحة له فيه.(1/306)
قلتُ: إني إذا سميته شيئاً ذكرته سبحانه بكلام آخر أَصِلُه به، فيكون مديحاً، لقولنا: الله شيء واحد كريم، والله شيء واحد عزيز، والله شيء ليس كالأشياء، فيكون ذلك مدحةً، ولا يذكر العبد التقي ربه إلا وهو فيما ذكر من أسمائه مادح، فإذا سمى اللهَ العبدُ بأنه شيء لم يفرده، حتى يقول: الله شيء لا كالأشياء، فيكون الكلام كله مقروناً بكلام آخر على ما ذكرنا، كان كله مديحاً، وقول القائل للشيء هذا شيء، كلام مرسل غير مقرون بما يتجلى به المعنى، فليس بذم ولا مدح، لقولك عرفت شيئاً، ولا يكون المعروف عندك مذموماً ولا ممدوحاً، حتى تقرنه بكلام آخر، فتقول: عرفت شيئاً هو صالح، وعرفت شيئاً هو فاسد، فيكون هنالك الذم والمدح، فلا يُدرك بقولك هذا شيء وهذا شيء ائتلاف ولا اختلاف، فلا يُرسل القول على الله بأنه شيء إلا مقروناً بكلام آخر، فيقول: هو شيء ليس كالأشياء، فيكون قولك: هو شيء بالصلة المقرونة مديحاً، فكذلك يقول القائل: هذا الثوب شيء حسن أفضل من غيره، فيكون بما أجرى به الثوب مديحاً، وإذا كان مرسلاً لم يكن له مدحاً ولا ذماً.(1/307)
( الرد على من أنكر أن يكون الله واحداً ليس بذي أبعاض )
الحمد لله الذي عن شبه كل شيء تعالى، وشَاهَدَ كل ملاءٍ وهو في السموات العلى، على العرش استوى، ولا يخفى عليه النجوى، وهو يَرى ولا يُرى، سبحانه، فليس عليه شيء يخفى، وليس كمثله شيء، وهو الواحد الصمد الباري المصور، وليس بصورة بل هو مصوِّر الصورة، وهو السميع العليم، قال الله عز وجل :?إنما هو إله واحد?[الأنعام: 19]. يخبر بوحدانيته في آي كثير.
والواحد في اللغة له معانٍ:
أحدها: البائن بالفضل والسؤدد.
ومعنى آخر يقول الناس: هذا شيء واحد ليس له نظير في الشبه.
ويقال: هذا وهذا واحدٌ يُراد أنهما متماثلان، وقد يقول المرء: قولي وقولك واحد، أي مثله، ويقال: لأقل قليل القلة هذا شيء واحد، يراد ثباته وتعطيل الثاني، بمعنى ليس له نظير ولا شبيه، بمعنى أنه ليس فيه اختلاف، وهذا معنى قولنا الله واحد ليس من عدد، ولا هو عدد، كما الانسان واحدُ عددٍ، كما أن الانسان أعضاء وكل عضوٍ يقال إنه واحد، فإذا اجتمعت الأعضاء قيل واحد، فهو واحدُ عددٍ آحاد، وهو من عدد آحاد مثله، لأنك تقول: هذا إنسان واحد، وتقول الآخر واحد فصاعداً، فكل واحد منهما واحد من عدد، وليس الله سبحانه واحداً من عدد، على معنى ما ذكرنا من معاني الواحد من غيره.
وقد قالت العرب: إن فلاناً واحدُ قومه أي: سيدهم، وهو واحد القوم، وإن كان له الاتباع والعبيد والأموال.
ويقال: إن فلاناً واحد الناس. أي: ليس له نظير، يعنون في السؤدد والكرم.(1/308)
واعلم أن الله واحد في الربوبية والعز والكبرياء، واحد بنفسه لا بغيره، وهو واحد لا ثاني معه، ولا مثل له في صفة ولا ذاتٍ، ولا في قول ولا في فعل، ولا في معنى من المعاني كلها، ولا له مثل في صفةٍ ولا في معنى شرفٍ وفضلٍ، ولا يزول عنه هذا المعنى الذي هو شرف في كل معنى، إذ لا شيء يشبهه، ولا هو شيء يشبه شيئاً، ولو جاز أن يكون له مثل في معنى، وكان ذلك يكون شرفاً لجاز أن يكون مثل غيره بكل معنى، ويكون ذلك له شرفاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ومعنى من معاني الواحد هو الأول الفرد، ذلك في الحساب والعدد بَيِّنٌ، إذ لا يكون العدد إلا به، لأنك تقول: واحدٌ واثنان، فالثاني بالواحد كان، ولولا الواحد الذي هو أول الثاني، ما كان الثاني قبل الأول، كان واحداً، أكثر العدد الذي لا يحصى، وهو المكثر لكل معدود، العدد الواحد يستزيد وبه يُزاد، ولولا هو ما كانت الزيادة، وكل ما زاد الحساب فبالواحد زاد، والواحد هو المفرد لما سواه، وهو أقدم من كل ما به ازداد، وكثرة العدد تزداد به، وتنقص به، فالواحد الذي به يزداد العدد وهو مقيم لكثرته، وبه يكون النقصان، وبه استوى الحساب، وبه يقل الكثير، ويكثر القليل، ويفرق بين الكثير والقليل.
فكذلك يقال الله واحد: بمعنى أول الأشياء، وبه كان كل شيء، وهو مشيئها، ومدبرها، بنفسه لا بغيره، ولا يتغير لتكثيرها ولا لتقليلها، ولا عند بطلانها، ولا يختلف سبحانه عند شيء من اختلافها، وهو سبحانه القائم بإنشائها، لا يتغير ولا يدخل في التغيير، بل التغيير داخل على ما أنشأ، ولم يزل الله قبل أن يكون الشيء شيئاً، ثم إنه أراد إنشاء ما أنشأ، فأنشأ ما أراد إنشاءه على ما شاء، واضطر المنشأ إلى التغيير والزوال، والحطوط والنقص والنماء.(1/309)
والله سبحانه واحد في معناه، لا في معاني ما أنشأه وهو الواحد لا من عدد، ولا فيه عدد به تجزَّأ، وليس شيء يقال: إنه واحد في الحقيقة غير الله، وكل واحدٍ سوى الله فهو ذو عدد مجزأ ومن عدد، وذلك أنك تقول للواحد من الخلق: إنه له فوق وتحت وأمام وخلف وشمال ويمين، وكل واحدٍ كما ذكرنا غير الآخر، فهذا غير واحد مما يضمه اسم الواحد، وهذا الواحد هو العدد، ومن عدد كثير من اللون وغير ذلك، هو من عدد له أشباه، والله واحد ليس بشيء من هذه المعاني المنقوصة شبيهاً، لأنه ليس له نظير.
فإن قال قائل: لم لا يكون قولك واحد تشبيهاً، وقد قلت لغير الله واحدٌ ؟!
قيل له: إنا لم نقل لغير الله واحد، بمعنى ما قلت إن الله واحد، وليس واحد كالله في ربوبيته ووحدانيته، وليس من هو واحد في الحقيقة ليس بجزء ولا باثنين سوى الله، وكل ما سوى الله فقد يقال واحد وهو أكثر من اثنين إذا حُدد على وجهِ ما فسرنا من الحدود التي تلزم الخلائق، وذلك لأن كل واحدٍ مما سوى الله فمسدس، وهو أكثر من اثنين. وإن قيل : إنه واحدٌ على ذكرنا، فليس الله بواحد كمعنى الآحاد المعدودة، وإنما هو إله واحد، ليس له ندٌ ولا له شبيهٌ، تعالى عما يقول المشبهون علواً كبيراً.
ومعنىً من معاني الواحد إذا أرادوا به دفع الاختلاف وحذف الجميع، كما قال الكميت بن زيد الأسدي:
فَضُمَّ قواصيَ الأحياء منهم فقد رجعوا كحيِّ واحدينا
فإن قال قائل: فإذا قلت: إن الواحد من الحساب في جميع العدد، فكذلك يقول الله في كل شيء.(1/310)