ومعنى آخر في تأويل قوله نور، قد علَّم العالمين، أن الأشياء تُدرك بحقائقها، وتُعلَم بالاستيقان وإن كانت غائبة. فالله يعلم ويعرف ويميز بين ما يدرك بالمجاهرة، وبين ما لا يدرك بها، كالخشونة واللين، والحمرة والبياض، وما لا يدرك بالمجاهرة، بالسمع والبصر والعقل [كـ]الرَّي والظمأ، والشبع والسغب، وما أشبه ذلك مما غُيِّب عن حوآسنا، وإن كنا قد أدركناه، لعلمنا بما صَرَّفَنَا منه ربُنا، فيما أخبرنا عما غاب عنا من ملكوته.
واعلموا أن الله سبحانه وصف الآية التي هي نور، مخبراً لعباده أن الله سبحانه لم يرد نفسه بقوله :?كمشكاة فيها مصباح?[النور: 35]. ولم يمثل بالقنديل نفسه، ولا بالمصباح تعالى عن ذلك، وأي فضلٍ في القنديل، ليس في النجم الذي هو الزهرة، فكيف يمثل نفسه بالقنديل، ويترك ما هو أَنْورُ من القنديل وأحسن، بل أي فضلٍ في القنديل ليس في دُرِّ الجنان! كيف يمثل نفسه بالقنديل ؟! وهو يتعالى عن الزهرة ودُرِّ الجنان!
بل كيف يضرب الله لنفسه أمثالاً مفضولة دون الفاضلة، تعالى عن التمثيل والأشباه، وتقدس عن ذلك. لكن الله سبحانه نور السماوات والأرض بما أبان لهم عن نفسه، بخلقه لهم، وبما له فيهم من التدبير، الدآل عليه، فاستضاء عباده به إذ أضاء لهم نفسه بخلقه لهم، فلم يضل في مضلات الشبهة، من استضاء بربه، واستنار به، فبانت الأعلام الهادية، لمن استبان بها عن ربها، فبان الله بها لمن استنار بها، وكان الله نورَه إذ اهتدى به، وأحيا لنا القلوب بعد موتها بنوره، إذ أنار لها فاهتدينا بها إليه.
ومعنى آخر من معاني النور، وهو مما لا يجوز على الله، وهو ما ذكرنا من معنى الشمس الساترة، وشعاعها المنبسط الذي ليس بساتر.
ومعنى من معاني النور، وهي النيران الكثيفة، وهي في معاني قرص الشمس والقمر.(1/301)
ومعنى من معاني النور، وهو الإيمان، لأن الإيمان نور، وكذلك القرآن نور، وقد سمى الله القمر نوراً والشمس سراجاً، والإيمان نوراً، وقال :?يخرجكم من الظلمات إلى النور?[الأحزاب: 43].
فهذه المعاني من الأنوار التي ذكرنا مميزة للعقول، إذا ما نظروا إليها بها، فأجروا على الله منها ما يجوز عليه، وما جرى على العباد منها، فعنه عز وجل نزهوا الله ولم ينسبوه إليه.
وأما تأويل :?مثل نوره كمشكاة?[النور: 35] فقد يجوز أن يكون عنَى بذلك القرآن في غياهب الوساوس نَيِّراً مضيئاً، وبه يبطل كيد إبليس اللعين، وتوهيمه وخدعه، فالقرآن في هذه الأماكن الموحشة، كالمشكاة التي هي الكوة والمصباح في القنديل ينير لما حوله، ويضيء لمن دنا منه.
وقد يجوز أن يكون الله عَنى بقوله مثل نور النبي صلى الله عليه كهذا المعنى الذي وصفنا به القرآن، والمعنى: أن النبي صلى الله عليه أضاء لنفسه بنبوته ورسالة ربه، وأضاء لمن دنا منه أو سمع به في الأخبار.
وقد يتجه أن يكون الله أراد به قلب المؤمن أيضاً، والإيمان الذي فيه، فمثل قلب المؤمن وكون الإيمان فيهمثل القنديل في المشكاة، فالإيمان يضيء للمؤمن عن كل ظلمة، كما أن القنديل يضيء في الكوة، وتضمحل به الغياهب المدلهمات من الريب، والإيمان يتوقد ويضيء بالحكمة توقداً يظهر شعاع الحكمة، ونورها في كلامه وفعاله، وعلى جوارحه، وهو بعلمه بربه علمه له نور على نور.
واعلم أنه قد يجوز أن يكون معنى قوله :?نور على نور?. أي: نور مع نور، لأن كلامه نور مع عمله، وعمله مع علمه، فهذا نور على نور، أي مع نور. ?يهدي الله لنوره من يشاء?. لا من يشاء غيره يهدي، ولو كانت البرية كلها لمن لا يريد هدايته ظهيراً لما اهتدى المرء أدنى الهداية، إلا أن يشاء الله.
وقد يتجه أن يكون الله سبحانه شبَّه نبيه صلى الله عليه وسلم، كما شبه القرآن والإيمان بالمعنى الذي وصفناه.(1/302)
ومعنى قوله :?زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء?، فهذه شجرة منبتها في مكانٍ تطلعالشمس عليه ولا تزول عنها حتى تغيب، وهي الشمس الضاحية، وهو أنضج لثمرها، تكاد أن ترى في الزيتونة التي هي ثمرها وجهك من ودكهامن نقائه وصفائه، فإذا وَقَدَ القنديل من زيت هذه الزيتونة، كان أنور للمصباح، وهذه أمثالٌ ضربها الله للناس لعلهم يتفكرون.
وقال بعضهم: إن معنى :?زيتونة لا شرقية ولا غربية?. أنه: محمد صلى الله عليه يصلي لا للمشرق ولا للمغرب، ولكن لكعبة الله البيت الحرام.(1/303)
( الرد على من أنكر من الجهمية أن يكون الله سبحانه شيئاً )
الحمد لله الذي علا على الخلائق، فلم يغب عنه خفيات الأمور، وكل شي عنده بمقدار، المنشئ لما أنشأه، فشيأه شيئاً كما شاء، وجعله متناهياً محدوداً، آثار الصنعة له لازمة، وأعلام العبودية فيه بينة، فأنشأ ما أنشأ نحوين: أحدهما مُبتَدَأٌ لا من شيء.
والثاني منقول من شيء إلى شيء، ومُحَوَّل من حال إلى حال، ومن طبيعة إلى طبيعة، كالمضغة تقلب من نطفة إلى علقة، والعلقة حولت مضغة، ثم جَسَّدها لحماً وأنشأها إنساناً، فصيَّره بشراً مخالفاً للبهائم، في الشكل والهيئة، احتجاجاً من الله على خلقه، بما أراهم من آياته فيهم.
وأن الله تبارك وتعالى وسم المعاني بأن قال: هي شيء، لإخراجه لها من العدم إلى الوجود لا أنه وصفها بهذه الصفة بمعنىً، ولا فرق بينها وبين شيء، إذ قال لها: إنها أشياء، لأنه أخبرنا أنه خالق كل شيء، فكل شيء سواه هو خلقُ شيء، وكلُ خلقٍ شيءٌ، فقد خلق النار والثلج، فالثلج شيء، والنار شيء، وليس أحدهما بالآخر شبيهاً في لونٍ ولا طبيعة ولا فعل، وإنما تماثلا في الشيْئية، وقد اختلفا في الصفات، وإنما سميت الأشياء بأن قيل لهذا: شيء وهذا شيء، لإثبات الأشياء بأنها موجودة، وأنها ليست بعدم، وقد قال الله في كتابه: ?كل شيء هالك إلى وجهه?[القصص: 88]. ذلك دليل على أن الله شيء لا كالأشياء، إذ الأشياء تهلك، وهو المُهلك لما يشاء منها، وقد قال الله في كتابه :?قل أي شيء أكبر شهادة قل الله?[الأنعام: 19]. فأخبر أنه شيء أكبر الأشياء، ولو قال قائل: أي الملائكة أفضل ؟ لم يجز أن يقال: بعض المؤمنين من الآدميين هو أفضل، لأن الآدميين ليسوا ممن ذكر في المسألة.
كذلك قال :?أي شيء أكبر شهادة?. علمنا أنه أجرى على نفسه الذكر أنه شيء ليس كالأشياء.
فإن سأل من الجهمية سائل: فقال: هل الله شيء ؟(1/304)
قيل له: نعم. الله شيء لا يُشبَّه بالأشياء، الأشياء مشيَّأَةٌ، وهو سبحانه شيء لا مُشَيَّأ.
فإن قال: أنت شيء ؟
قيل له: نعم. أنا شيء مُشيَّأ لا أني غير مُشيَّأ، والله شيء لا مشيَّأ، بل الله مشيء الأشياء لا يشبهه ما شيَّأه. وليس في قولي: أنا شيء والله شيء تشبيه، لما فصلناه من معنى الشيء والمشيَّأ، وأن قولي أيضاً شيء اسم لازم للجميع، وجارٍ على كل معنى، وثابت على كل موجود مشيَّأ، كان أو يكون، ولا يقضي بإيقاعه على المسمين - مفرداً - ائتلاف ولا اختلاف، وذلك أنك تقول: الفيل شيء، والذرة شيء، وهما غير مشتبهين في قولك: هذا شيء وهذا شيء، وكذلك تقول: الإنسان شيء، والشيطان شيء، وهما لا يتماثلان، وقد أوقعت على كل واحدٍ منهما أنه شيء، وكذلك تقول: آدم صلى الله عليه شيء، وربنا شيء، وهما غير متماثلين.
فإن قال: أليس آدم مخلوقاً والذَّرة مخلوقة ؟!
قيل له: بلى.
فإن قال: هل يتماثلان في أنهما خلق لله ؟
قيل له: نعم.
فإن قال: ما فرق ما بين شيء وشيء وخلقٍ وخلقٍ ؟
قيل له: إن الخلق اسم له خلاف، وخلافه خالق، ولو قال القائل: الخالق مخلوق كَذَبَ، ولو قال القائل: الخالق شيء لم يكذب، والخالق هو خلاف المخلوق، ولا يوجد لشيء خلاف إلا شيء مثله موجود، ولا شيء إلا موجود، ولا موجود لا يكون لا خلاف ولا يكون خلافاً.
فإن قال قائل: إن لا شيء خلاف شيء.
قيل له: قد أنبأناك أن الشيء خلاف شيء، ولا يكون شيء خلاف لا شيء، ولا يكون لا شيء له خلافٌ، ولا يجوز أن يقال: للا شيء اتفاق ولا اختلاف، لأن هذا عدم لا يتوهم.
فإن قالوا: لِمَ أجزت أن تقول: شيء وشيء وهما لا يشتبهان ؟
قيل: من قِبَلِ أني ثبَّتُّهما ونفيتُ عنهما العدم، وأخرجتُهما من التعطيل.
فإن قال: لم قلت لا شيء ؟(1/305)