9- ومعنى آخر من معاني (في): يكون تفسيره إلى. وذلك قوله عز وجل :?ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها?[النساء: 97]. يعني: إليها.
10- وقد يتجه تفسير (في): إلى معنى آخر، قال الله سبحانه في كتابه :?ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً?[الإسراء: 72]. أي: عن هذه النعمة، وعن ذكر آياتي، فهو في الآخرة أعمى.
11- وقد يتجه على معنى آخر، في قول الله فيما أخبر عن فرعون، وقوله لموسى عليه السلام :?ولبثت فينا من عمرك سنين?[الشعراء: 12] أي: عندنا، وقال :?إنا لنراك فينا ضعيفاً?[هود: 91]. بمعنى: عندنا.
وقال تبارك وتعالى :?وهو معكم أينما كنتم?[الحديد: 4]. فالمعنى في ذلك كله على المشاهدة والتدبير لا على أنه في شيء يحويه، ولا على أنه مع شيء ملازقٍ له ولا أنه على شيء، كما الانسان على السرير، وعلى السطح، وقد خلا منه ما هو أسفل من ذلك.
ومن ذلك قول الشاعر:
وصرنا خاليين وليس معنا .... سوى رب البنيَّة والمقام
فمن أنكر ذلك وزعم أن ربه في مكان دون مكان ! سئل في أي مكانٍ هو ؟!
فإن قال: على العرش.
قيل له: أو ليس العرش غير السماوات والأرض ؟! فقوله: نعم.
فيقال له: كيف قلت هو في السماء، وقد زعمت أنه على العرش، والعرش غير السماوات والأرض ؟! وفي هذا ردٌّ لقول الله سبحانه :?وهو الله في السموات وفي الأرض?[الأنعام: 3].
وإن قالوا: إن العرش ليس في السماوات، ولكنه فوقها، عطلوا السماوات من العرش، وفي تعطيلهم السماوات من العرش تعطيل ما قالوا هو العرش دون ما سواها.(1/296)


( الرد على من قال إن لله نفساً كنفس الإنسان )
إن سأل سائل ذو حَيرة عن قول الله عز وجل :?تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك?[المائدة: 116]. وعن قوله سبحانه :?كتب على نفسه الرحمة?[الأنعام: 12]. وتوهم أن لله عز وجل نفساً كنفس الانسان، وأنها جزء الجسم، وأنها جوهرٌ يقيم الأعراض ؟‍
قيل له: إن معنى قول الله سبحانه في كتابه :?تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك?، أي: تعلم ما أعلم ولا أعلم الذي تعلم، وكذلك قال عز وجل :?كتب على نفسه الرحمة?، فالكاتب هو المكتوب عليه، وهو الله عز وجل، الكاتب والمكتوب عليه.
وإن زعم أن النفس معنىً غير ذاته، وزعم أنه شخصٌ.
سئل عما في النفس، أهي النفس أم غير النفس ؟!
فإن زعم أنها غير النفس، زعم أن في ربه غير ربه، وإن زعم أن الذي في النفس هي النفس ! زعم أنه لا معنى لقوله ?في نفسي? !!
ويُسألون هل كانت النفس وفيها ذلك الذي هو غيرها ؟!
فإن زعموا أنه لم يزل، جحدوا قول الله :?هو الأول?[الحديد:3]. وإن زعموا أنها كانت، وليس فيها ذلك الذي في النفس، وأن ذلك محدث، جحدوا أن يكون:كان عالماً لم يزل.
واعلم أن للنفس في لغة العرب معاني، فمنها ما يجوز على الله تبارك وتعالى، ومنها ما لا يجوز عليه.
فأما ما لا يجوز عليه: فمعنى النفس التي هي الروح، وما ذكر الله تعالى من قوله :?وإذا النفوس زوجت?[التكوير: 7]. فهذه النفوس هي أجزاء الإنسان التي هي أرواحهم. وقد قيل في اللغة [في] ذكر هذه النفس: فاضت نفس فلان، يعنون: خروج روحه، وهذا المعنى عن الله عز وجل منفي.(1/297)


وقال الله عز وجل في كتابه، يذكر النفس بغير هذا المعنى :?خلقكم من نفس واحدة?[النساء: 10] يعني: من آدم عليه السلام، فسماه نفساً، ولم يرد به روحه، وقال :?يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي?[الفجر: 27]. يعني: يا أيها الإنسان، ولم يرد النفس التي هي الروح فقط، وإنما أراد الحي الذي هو الإنسان، وكذلك قوله :?كل نفس بما كسبت رهينة?[المدثر: 28]. أي: كل إنسان بما كسب رهين، وقال :?أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت?[الزمر: 56]. يعني: أن يقول الانسان وقال :?النفس بالنفس?[المائدة: 45]. يريد: الانسان . وقال :?كل نفس ذائقة الموت?[العنكبوت: 57]. يعني: أن كل إنسان ميِّت.
والعرب قد تقول للشيء الذي لا روح له ولا شخص، هذا نفس كلامك، وهذا النور بنفسه.
وقال الشاعر:
قالت له النفس إني لا أرى طمعاً .... وإن مولاك لم يسلم ولم يصد
وقال آخر:
وهل نحن إلا أنفس مستعارة .... تمر بها الروحات والغدوات
يعني هل نحن إلا أناسي مستعارون، ولو أراد بذكر النفس معنى الروح لما جاز أن يسمى كله نفساً، لأنه بدنٌ ونفس.
وقال آخر:
وقد وَفَدَتْ إليك بذات نفسي .... قصائدُ يعترفن بما نشاء
يعني بقوله بذات نفسي، أي: بي كما أنا. كما قيل في اللغة: جئتك بنفسي، ولم يريدوا بقولهم معنىً ثانياً، هو غير جئتك، لأنه إذا قيل: جئتك دل على الجائي تاماً، ولما قال بنفسي لم يرد معنى ثانياً هو غير المعنى الذي هو جئتك.
وقال آخر:
…………… وما لامَ نفسي مثلها لي لائم
قال الله عز وجل :?قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم?[آل عمران: 61]. يعني: نحن وأنتم، وقال الله :?ويحذركم الله نفسه?[آل عمران: 28]. فالمحذِّر: هو: المحذَّر منه، يعني يحذركم الله أي: يعذبكم، كما قال :?كتب على نفسه الرحمة?[الأنعام: 12]. وليس الكاتب غير المكتوب عليه.(1/298)


( الرد على من زعم أن الله نور كالأنوار المخلوقة )
إن بعض الملحدين توهم أن الله عز وجل نور كالأنوار المنبسطة، وتوهم آخرون منهم أنه نور كالأنوار الكثيفة الساترة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وقد رأينا مثل المعنيين اللذين توهموا من النور المنبسط، والنور الكثيف الساتر، فأما النور الكثيف الساتر، فالبدر إذا هو كَهَرَ، وكَثُفَ، ستر من السماء عن أبصارنا بقدر استدارته، ورأينا قرص الشمس كثيفاً ساتراً يستر الأبصار من السماء بقدر استدارته، فأما النور المنبسط، الذي تنفذه الأبصار فقد رأيناه، من ذلك ضوء النهار، ونور القمر، وشعاع الشمس يدخل من الكوة، فلا يستر أبصارنا لانبساطها، ولا يكون ذلك ساتراً لأبصارنا عما خلفه.
وأعلام العبودية في هذه الأنوار التي ذكرنا كلها بينة، وذلك لأن النور الكثيف الساتر ضعيف لا يقدر على الزيادة في نفسه، ولا الانتقاص لها، ولا تقدر على الامتناع من العيون أن تدركها، فالضعف لكل ما ذكرنا لازم، وكذلك الضعف بَيِّنٌ في الأنوار المنبسطة، إذ لم يحجب الأبصار عن نفذها ومجاوزتها إلى ما خلفها، فالضعف لكل ما ذكرنا لازم، والله فيتعالى عن هذه المعاني، أن يكون بشيء منها موصوفاً، لأنها مخلوقة، وكل ما أشبه المخلوق فهو مخلوق، وليس الخالق للشيء، كالمخلوق في جميع المعاني كلها.
واعلم أن النور له في الكتاب وفي اللغة معانٍ، يجري على الله عز وجل بعضها، ولا يجري عليه بعضها، فالذي يجري عليه منها، هو ما قال الله في كتابه :?الله نور السموات والأرض?[النور: 35].(1/299)


يعني: الله ينير لعباده دلائله التي يهتدون إليه بها، لأن يعرفوه بما أبان، ويعلمون أنه الحق بآياته المنيرة، وأن يميزوا بها بين الخالق وخلقه، والله نور الأنوار، وهو منير لما نوّر من دلائله، فهو نورها لأنه أضاء لنا الأشياء وأبانها، وجلا عنها ظلمة الشبهة، فأزال عنها الشكوك والريب، بتجليتها للعقول، أنه الحق المبين، وأنه نور كل شيء، وليس كمثله شيء. وكذلك أمرنا أن نصفه، وبذلك دلنا على نفسه، من غير أن نجاهر الله فتدركه الأبصار، فاستنار لنا بتدبيره، من غير مشاهدة مِنَّا له، ولا إحاطة به، ولا إدراك من حواسنا له، فهو نور السماوات والأرض، ونور من فيهما، بمعنى: الذي ذكرنا أن الحق من عنده، وأن العباد به استناروا، وبه استضاءُوا، وبه أبصروا، إذ استضاء لهم سبحانه بنوره الذي عاينوا من خلق أنفسهم، وتدبيره في ملكوت السماوات والأرض.
ومن لطائف الآيات التي لا يكون معها ريب، ولا تدانيها الشكوك، ولا تعتريها الفترات، ولا تكون معها الغفلات، فرأوا رَبَّهم بتدبيره ونوره وعلاماته، لا بمجاهرة منهم له، ولا بالمشاهدة والملاقاة، تقدس الله عن ذلك، وجل جلالاً عظيماً . وكذلك الله نور السماوات والأرض ومن فيها، لأن عباده الذين هم سكان أرضه، استناروا وعلموه بما عاينوه من نوره، إذ دَبَّر الأرض، وخلق فيها ما به أنار لهم، إنه الله سبحانه، فاستنار نوره بغير تحديد، وعرفوه من غير تَخَيُّل، ووحدوه معروفاً بغيرتشبيه، بل عرفوا الله بعجيب آياته، وبأثر دلالاته.(1/300)

60 / 201
ع
En
A+
A-